{ 14-15 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }
هذا تحذير من الله للمؤمنين ، من الاغترار بالأزواج والأولاد ، فإن بعضهم عدو لكم ، والعدو هو الذي يريد لك الشر ، ووظيفتك الحذر ممن هذه وصفه{[1128]} والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد ، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد ، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي{[1129]} ورغبهم في امتثال أوامره ، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية ، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية ، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد ، فيما هو ضرر على العبد ، والتحذير من ذلك ، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم ، أمر تعالى بالحذر منهم ، والصفح عنهم والعفو ، فإن في ذلك ، من المصالح ما لا يمكن حصره ، فقال : { وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لأن الجزاء من جنس العمل .
فمن عفا عفا الله عنه ، ومن صفح صفح الله عنه ، ومن غفر غفر الله له ، ومن عامل الله فيما يحب ، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم ، نال محبة الله ومحبة عباده ، واستوثق له أمره .
ثم كرر هذا التحذير في صورة أخرى من فتنة الأموال والأولاد . وكلمة فتنة تحتمل معنيين :
الأول أن الله يفتنكم بالأموال والأولاد بمعنى يختبركم ، فانتبهوا لهذا ، وحاذروا وكونوا أبدا يقظين لتنجحوا في الابتلاء ، وتخلصوا وتتجردوا لله . كما يفتن الصائغ الذهب بالنار ليخلصه من الشوائب !
والثاني أن هذه الأموال والأولاد فتنة لكم توقعكم بفتنتها في المخالفة والمعصية ، فاحذروا هذه الفتنة لا تجرفكم وتبعدكم عن الله .
وقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عبد الله بن بريدة : سمعت أبي بريدة يقول : " كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يخطب ، فجاء الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمران ، يمشيان ويعثران فنزل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من المنبر فحملهما ، فوضعهما بين يديه . ثم قال : " صدق الله ورسوله . إنما أموالكم وأولادكم فتنة . نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " . . ورواه أهل السنة من حديث ابن واقد . فهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهذان ابنا بنته . . وإنه لأمر إذن خطير . وخطر . وإن التحذير والتنبيه فيه لضرورة يقدرها من خلق قلوب الناس ، وأودعها هذه المشاعر ، لتكفكف نفسها عن التمادي والإفراط ، وهي تعلم أن هذه الوشائج الحبيبة قد تفعل بها ما يفعل العدو ، وتؤدي بها إلى ما تؤدي إليه مكايد الأعداء !
ومن ثم يلوح لها بما عند الله بعد التحذير من فتنة الأموال والأولاد ، والعداوة المستسرة في بعض الأبناء والأزواج . فهذه فتنة ( والله عنده أجر عظيم ) . .
وقوله : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } يقول تعالى : إنما الأموال والأولاد فتنة ، أي : اختبار وابتلاء من الله لخلقه . ليعلم من يطيعه ممن يعصيه .
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ } أي : يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ+ [ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } والتي بعدها ] [ آل عمران : 14 ، 15 ]{[28930]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني حُسَين بن واقد ، حدثني عبد الله بن بُرَيدة ، سمعت أبي{[28931]} بريدة يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين ، رضي الله عنهما ، عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : " صدق الله ورسوله ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما " .
ورواه أهل السنن من حديث حُسَين بن واقد ، به{[28932]} وقال الترمذي : حسن غريب ، إنما نعرفه من حديثه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، حدثنا الأشعث بن قيس قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة ، فقال لي : " هل لك من ولد ؟ " قلت : غلام ولد لي في مَخرجَي إليك من ابنة جمد ، وَلَوَددْتُ أن بمكانه : شبَعَ القوم . قال : " لا تقولن ذلك ، فإن فيهم قرة عين ، وأجرًا إذا قبضوا " ، ثم قال : " ولئن قلت ذاك : إنهم لمجبنة مَحْزنة " تفرد به أحمد{[28933]} رحمه الله تعالى .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمود بن بكر ، حدثنا أبي ، عن عيسى [ بن أبي وائل ]{[28934]} عن ابن أبي ليلى ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مَجبنة مَبخلة محزنة " ثم قال : لا يعرف إلا بهذا الإسناد{[28935]}
وقال الطبراني : حدثنا هاشم بن مرثد{[28936]} حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَمُ بنُ زُرْعَةَ ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزًا لك ، وإن قتلك دخلت الجنة ، ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ، ثم أعدى عدو لك مالُك الذي ملكت يمينك " {[28937]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما أموالكم أيها الناس وأولادكم إلا فتنة، يعني بلاء عليكم في الدنيا...
وقوله:"وَاللّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ "يقول: والله عنده ثواب لكم عظيم، إذا أنتم خالفتم أولادكم وأزواجكم في طاعة الله ربكم، وأطعتم الله عزّ وجلّ، وأدّيتم حقّ الله في أموالكم، والأجر العظيم الذي عند الله الجنة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنما أموالكم وأولادكم فتنة} المفتون، هو المولع بالشيء العاشق له، فكأنه قال: إنما أموالكم وأولادكم معشوقكم، فلا يحملكم حبهم على أن تتركوا ابتغاء الأجر العظيم عند الله تعالى. ويحتمل أن يكون معناه أن الله تعالى لم يخلق الأزواج والأولاد لكم مجانا، بل إنما خلقهم ليبتليكم، ويمتحنكم أن كيف تعاملون الله تعالى في ما أمركم به، ونهاكم عن حبهم. ثم أخبر أن الله {عنده أجر عظيم} ليتحملوا المؤنة العظيمة في أوامره ونواهيه عند حبهم الأولاد والأموال...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما: لأنه يلهو بهما عن آخرته ويتوفر لأجلهما على دنياه.
الثاني: لأنه يشح لأجل أولاده فيمنع حق اللَّه من ماله، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد مبخلة محزنة مجبنة".
{والله عنده أجْرٌ عظيمٌ}. ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يكون أجرهم في الآخرة أعظم من منفعتهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا، فلذلك كان أجره عظيماً.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والفتنة: المحنة التي فيها مشقة تمنع النفس عما تدعو إليه الشهوة.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أنما أموالكم وأولادكم فتنة} ابتلاء واختبار لكم فمن كسب الحرام لأجل الأولاد ومنع ماله عن الحقوق فهو مفتون بالمال والولد {والله عنده أجر عظيم} لمن صبر عن الحرام وأنفق المال في حقه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد {فتنة} تشغل المرء عن مراشده وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الولد مجبنة مبخلة"، وخرج أبو داود حديثاً في مصنفه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر حتى أخذهما وصعد بهما، ثم قرأ: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} الآية، وقال إني رأيت هذين فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته.
وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء، فأما فتنة الجهال والفسقة، فمؤدية إلى كل فعل مهلك، وقال ابن مسعود: لا يقول أحدكم اللهم اعصمني عن الفتنة فإنه ليس يرجع أحد إلى أهل ومال إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن. وقال عمر لحذيفة: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق، فقال عمر: ما هذا؟ فقال: أحب ولدي وأكره الموت.
وقوله تعالى: {والله عنده أجر عظيم} تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة، {كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى}...
{والله عنده أجر عظيم}: تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنةً... والإِخبار ب {فتنة} للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفَتْن أم لم يسعوا. فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة...
والفتنة: اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم مَن عرضت له... {والله عنده أجر عظيم}...
كناية عن الجزاء عن تلك الفتنة لمن يصابر نفسه على مراجعة ما تسوله من الانحراف عن مرضاة الله إن كان في ذلك تسويل. والأجر العظيم على إعطاء حق المال والرأفة بالأولاد، أي: والله يؤجركم عليها.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) فإذا تجاوزتم ذلك كلّه فإنّ (الله عنده أجر عظيم). وقد تقدّم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الانحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن «فتنة»، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائماً من أجل تربيته، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الامتحان والابتلاء، لأنّ جاذبية الأموال من جهة، وحبّ الأولاد من جهة أخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا يكون فيه رضا الله تعالى أحياناً، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة، ولذلك ورد التعبير في الآية «إنّما» التي تدلّ على الحصر...