{ وَهُوَ } تعالى وحده { الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : المتصرف في الحياة والموت ، هو الله وحده ، { وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : تعاقبهما وتناوبهما ، فلو شاء أن يجعل النهار سرمدا ، من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ؟ ولو شاء أن يجعل الليل سرمدا ، من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تبصرون ؟ . ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) .
ولهذا قال هنا : { أَفَلَا تَعْقِلُونَ } فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم ، السمع ، والأبصار ، والأفئدة ، والذي نشركم في الأرض وحده ، والذي يحيي ويميت وحده ، والذي يتصرف بالليل والنهار وحده ، أن ذلك موجب لكم ، أن تخلصوا له العبادة وحده لا شريك له ، وتتركوا عبادة من لا ينفع ولا يضر ، ولا يتصرف بشيء ، بل هو عاجز من كل وجه ، فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك .
( وهو الذي يحيي ويميت ) . . والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة ، وليس إلا الله يملك الموت والحياة . فالبشر - أرقى الخلائق - أعجز من بث الحياة في خلية واحدة ، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا عن حي من الأحياء . فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها ، ويملك أن يهبها ويستردها . والبشر قد يكونون سببا وأداة لإزهاق الحياة ، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة . إنما الله هو الذي يحيي ويميت ، وحده دون سواه .
( وله اختلاف الليل والنهار ) . . فهو الذي يملكه ويصرفه - كاختلاف الموت والحياة - وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة . هذه في النفوس والأجساد ، وهذه في الكون والأفلاك . وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم جسده ويهمد ، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن . ثم تكون حياة ويكون ضياء ، يختلف هذا على ذاك ، بلا فتور ولا انقطاع إلا أن يشاء الله . . ( أفلا تعقلون ? )وتدركون ما في هذا كله من دلائل على الخالق المدبر ، المالك وحده لتصريف الكون والحياة ?
{ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ }أي : يحيي الرمم ويميت الأمم ، { وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : وعن أمره تسخير الليل والنهار ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، يتعاقبان لا يفتران ، ولا يفترقان بزمان غيرهما ، كقوله تعالى : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] .
وقوله : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم ، الذي قد قهر كل شيء ، وعز كل شيء ، وخضع له كل شيء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللّيْلِ وَالنّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والله الذي يحيي خلقه يقول : يجعلهم أحياء بعد أن كانوا نُطَفا أمواتا ، بنفخ الروح فيها بعد التارات التي تأتي عليها . ويُمِيتُ يقول : ويميتهم بعد أن أحياهم . وَلَهُ اخْتِلافُ اللّيْلِ والنّهارِ يقول : وهو الذي جعل الليل والنهار مختلفين ، كما يقال في الكلام : لك المنّ والفضل ، بمعنى : إنك تَمُنّ وتُفْضِلْ . وقوله : أفَلا تَعْقِلُونَ يقول : أفلا تعقلون أيها الناس أن الذي فعل هذه الأفعال ابتداء من غير أصل لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم وإنشاء ما شاء إعدامه بعد إنشائه .
هو من أسلوب { وهو الذي أنشأ لكم السمع } [ المؤمنون : 78 ] وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن البعث إحياء إدماجاً للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم .
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد ، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر . ولما كان من الإحياء خلْق الإيقاظ ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة ، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة ، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى : { كما بدأكم تعودون } [ الأعراف : 29 ] .
واللام في { له اختلاف الليل والنهار } للملك ، أي بقدرته تصريف الليل والنهار ، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثاً ، والليلُ يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاةً في قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه } [ الأنعام : 60 ] .
وتقديم المجرور للقصر ، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره ، أي فغيره لا تحق له الإلهية .
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علماً بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جُعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله { أفلا تعقلون } .
وهذا تذييل راجع إلى قوله { وإليه تحشرون } [ المؤمنون : 79 ] وما بعده .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهو الذي يحيي} الموتى {ويميت} الأحياء {وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون} توحيد ربكم فيما ترون من صنعه فتعتبرون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي يحيي خلقه يقول: يجعلهم أحياء بعد أن كانوا نُطَفا أمواتا، بنفخ الروح فيها بعد التارات التي تأتي عليها، "ويُمِيتُ "يقول: ويميتهم بعد أن أحياهم.
"وَلَهُ اخْتِلافُ اللّيْلِ والنّهارِ" يقول: وهو الذي جعل الليل والنهار مختلفين..
"أفَلا تَعْقِلُونَ" يقول: أفلا تعقلون أيها الناس أن الذي فعل هذه الأفعال ابتداء من غير أصل لا يمتنع عليه إحياء الأموات بعد فنائهم وإنشاء ما شاء إعدامه بعد إنشائه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وأخبر عن قدرته وسلطانه حين قال: {وهو الذي يحي ويميت.. و من قدر، وملك إحياء الموتى وإماتة الحي قادر على البعث، ومن ملك إنشاء الليل بعدما ذهب أثر النهار وإنشاء النهار بعدما ذهب أثر الليل قادر على الإحياء والبعث بعد الموت...
فكيف تنكرون قدرته على البعث والإحياء بعدما صرتم رمادا وترابا؟ وكيف تشركون غيره في عبادتكم إياه؟ وتصرفون الشكر إلى غيره في ما أنعم عليكم؟
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
..."وله اختلاف الليل والنهار" أي له مرورهما يوما بعد ليلة، وليلة بعد يوم، كما يقال إذا أتى الرجل الدار مرة بعد مرة: هو يختلف إلى هذه الدار.
وقيل: معناه وله تدبيرهما بالزيادة والنقصان.
ثم قال "أفلا تعقلون" فتفكرون في جميع ذلك، فتعلمون أنه لا يستحق الإلهية سواه، ولا تحسن العبادة إلا له.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وكذلك يحيي القلوبَ ويميتها؛ فموتُ القلب بالكُفْرِ والجُحد، وحياةُ القلبِ بالإيمان والتوحيد...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: يحيي الرمم ويميت الأمم، {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: وعن أمره تسخير الليل والنهار، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، يتعاقبان لا يفتران، ولا يفترقان بزمان غيرهما، كقوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وقوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي: أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم، الذي قد قهر كل شيء، وعز كل شيء، وخضع له كل شيء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تضمن ذلك إحياءهم وإماتتهم، صرح به على وجه عام فقال: {وهو} أي وحده {الذي} من شأنه أنه {يحيي ويميت} فلا مانع له من البعث ولا غيره مما يريده. ولما كانت حقيقة البعث إيجاد الشيء كما هو بعد إعدامه، ذكرهم بأمر طالما لابسوه وعالجوه ومارسوه، فقال: {وله} أي وحده، لا لغيره {اختلاف الليل والنهار} أي التصرف فيهما على هذا الوجه، يوجد كلاًّ منهما بعد أن أعدمه كما كان سواء، فدل تعاقبهما على تغيرهما، وتغيرهما بذلك وبالزيادة والنقص على أن لهما مغيراً لا يتغير وأنه لا فعل لهما وإنما الفعل له وحده، وأنه قادر على إعادة المعدوم كما قدر على ابتدائه بما دل على قدرته وبهذا الدليل الشهودي للحامدين، ولذلك ختمه بقوله منكراً تسبيبَ ذلك لعدم عقلهم: {أفلا تعقلون} أي يكون لكم عقول لتعرفوا ذلك فتعملوا بما تقتضيه من اعتقاد البعث الذي يوجب سلوك الصراط.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} فتعرفون أن الذي وهب لكم من النعم، السمع، والأبصار، والأفئدة، والذي نشركم في الأرض وحده، والذي يحيي ويميت وحده، والذي يتصرف بالليل والنهار وحده، أن ذلك موجب لكم، أن تخلصوا له العبادة وحده لا شريك له، وتتركوا عبادة من لا ينفع ولا يضر، ولا يتصرف بشيء، بل هو عاجز من كل وجه، فلو كان لكم عقل لم تفعلوا ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحياة والموت حادثان يقعان في كل لحظة، وليس إلا الله يملك الموت والحياة. فالبشر -أرقى الخلائق- أعجز من بث الحياة في خلية واحدة، وأعجز كذلك من سلب الحياة سلبا حقيقيا عن حي من الأحياء. فالذي يهب الحياة هو الذي يعرف سرها، ويملك أن يهبها ويستردها. والبشر قد يكونون سببا وأداة لإزهاق الحياة، ولكنهم هم ليسوا الذين يجردون الحي من حياته على وجه الحقيقة. إنما الله هو الذي يحيي ويميت، وحده دون سواه. (وله اختلاف الليل والنهار).. فهو الذي يملكه ويصرفه -كاختلاف الموت والحياة- وهو سنة كونية كسنة الموت والحياة. هذه في النفوس والأجساد، وهذه في الكون والأفلاك. وكما يسلب الحياة من الحي فيعتم جسده ويهمد، كذلك هو يسلب الضوء من الأرض فتعتم وتسكن. ثم تكون حياة ويكون ضياء، يختلف هذا على ذاك، بلا فتور ولا انقطاع إلا أن يشاء الله.. (أفلا تعقلون؟) وتدركون ما في هذا كله من دلائل على الخالق المدبر، المالك وحده لتصريف الكون والحياة؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علماً بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جُعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله {أفلا تعقلون}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبعد ذكر خلق الإنسان، تناولت الآية المذكورة آنفاً دلائل أُخرى من بديع صنع الله تعالى (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون). وبهذا الترتيب بدأ البيان القرآني من الدافع لاستيقاظ القلب وانبعاثه على معرفة ربّه سبحانه وانتهى بذكر بعض أهمّ الآيات الأنفسيّة والآفاقية، فالقول المبارك استعرض مسيرة الإنسان منذ الولادة حتّى الموت والعودة إلى الله تعالى، التي تتمّ مراحلها جميعاً بإرادة الله العزيز الحكيم. وممّا يلفت النظر جعل الله الموت والحياة إلى جانب اختلاف الليل والنهار، وذلك لكون النور والظلام في عالم الوجود كالموت والحياة للكائنات، فمثلما يجد الخلق حركته ونشاطه بين أفواج النور، ويستخفي بين أستار الظلام، كذلك تبدأ الأحياء حركتها ونشاطها في نور الحياة، وتستخفي في ظلمة الموت، ولكليهما صفة التدرّج.