تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

{ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ } أي : اعتمدت في أمري كله على الله { رَبِّي وَرَبُّكُمْ } أي : هو خالق الجميع ، ومدبرنا وإياكم ، وهو الذي ربانا .

{ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه ، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي ، والله لم يسلطكم علي ، لم تقدروا على ذلك ، فإن سلطكم ، فلحكمة أرادها .

ف { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : على عدل ، وقسط ، وحكمة ، وحمد في قضائه وقدره ، في شرعه وأمره ، وفي جزائه وثوابه ، وعقابه ، لا تخرج أفعاله عن الصراط المستقيم ، التي يحمد ، ويثنى عليه بها .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

50

( إني توكلت على الله ربي وربكم ) . .

ومهما أنكرتم وكذبتم . فهذه الحقيقة قائمة . حقيقة ربوبية الله لي ولكم . فالله الواحد هو ربي وربكم ، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة . .

( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) . .

وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض ، بما فيها الدواب من الناس . والناصية أعلى الجبهة . فهو القهر والغلبة والهيمنة ، في صورة حسية تناسب الموقف ، وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم . . وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد :

( إن ربي على صراط مستقيم ) .

فهي القوة والاستقامة والتصميم .

وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الاستعلاء وسر ذلك التحدي . . إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود - عليه السلام - في نفسه من ربه . . إنه يجد هذه الحقيقة واضحة . . إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر : ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) . . وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهرا . فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها ؛ وهي لا تسلط عليه - إن سلطت - إلا بإذن ربه ؟ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه ؟

إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه ، لا تدع في قلبه مجالا للشك في عاقبة أمره ، ولا مجالا للتردد عن المضي في طريقه .

إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة أبدا .

وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله ، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة ، يأخذ هود في الإنذار والوعيد :

/خ60

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

وقوله : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي : [ هي ]{[14689]} تحت قهره وسلطانه ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه ، فإنه على صراط مستقيم .

قال الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو{[14690]} عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } قال : فيأخذ بنواصي عباده فيلقى المؤمن{[14691]} حتى يكون له{[14692]} أشفق من الوالد لولده{[14693]} ويقال للكافر : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } [ الانفطار : 6 ] .

وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به ، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ، بل هي جَمَاد لا تسمع ولا تبصر ، ولا تُوالي ولا تُعادي ، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له ، الذي بيده الملك ، وله التصرف ، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه ، فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه .


[14689]:- زيادة من ت ، أ.
[14690]:- في أ : "محرز".
[14691]:- في ت : "للمؤمن".
[14692]:- في ت : "لهم".
[14693]:- في ت : "بولده".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُمْ مّا مِن دَآبّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنّ رَبّي عَلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ } .

يقول : إني على الله الذي هو مالكي ومالككم والقّم على جميع خلقه تَوَكّلْتُ من أن تصيبوني أنتم وغيركم من الخلق بسوء ، فإنه ليس من شيء يدبّ على الأرض إلا والله مالكه وهو في قبضته وسلطانه ذليل له خاضع .

فإن قال قائل : وكيف قيل : هو آخذ بناصيتها ، فخصّ بالأخذ الناصية دون سائر أماكن الجسد ؟ قيل : لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع ، فتقول : ما ناصية فلان إلا بيد فلان ، أي أنه له مطيع يصرفه كيف شاء وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزّوا ناصيته ليعتدوا بذلك عليه فخرا عند المفاخرة . فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم ، والمعنى ما ذكرت .

وقوله : إنّ رَبّي على صِرَاط مُسْتَقِيمٍ يقول : إن ربي على طريق الحق ، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم شيئا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنّ رَبّي على صِرَاط مُسْتَقِيمٍ الحق .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنِّي تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمۚ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلَّا هُوَ ءَاخِذُۢ بِنَاصِيَتِهَآۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ} (56)

جملة { إنّي توكلت } تعليل لمضمون { فكيدوني } وهو التعجيز والاحتقار . يعني : أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله ، فهذا معنى ديني قديم .

وأُجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالاً على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه ، لأنه مالكهم جميعاً يدفع ظلم بعضهم بعضاً .

وجملة { ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها } في محل صفة لاسم الجلالة ، أو حال منه ، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية .

والأخذ : الإمساك .

والناصية : ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس . والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكّن ، تشبيهاً بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتاً .

وإنما كان تمثيلاً لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم { ما من دابة } ، ولكنه لما صار مثلاً صار بمنزلة : ما من دابة إلا هو متصرف فيها . ومن بديع هذا المثل أنّه أشدّ اختصاصاً بالنوع المقصود من بين عموم الدّواب ، وهو نوع الإنسان . والمقصود من ذلك أنّه المالك القاهر لجميع ما يدبّ على الأرض ، فكونه مالكاً للكلّ يقتضي أن لا يفوته أحد منهم ، وكونه قاهراً لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم .

وجملة { إن ربّي على صراط مستقيم } تعليل لجملة { إنّي توكّلت على الله } ، أي توكّلت عليه لأنّه أهل لتوكلي عليه ، لأنّه متّصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله .

و { على } للاستعلاء المجازي ، مثل { أولئك على هدىً من ربهم } [ البقرة : 5 ] مستعارة للتمكّن المعنوي ، وهو الاتّصاف الراسخ الذي لا يتغير .

والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأنّ العدل يشبّه بالاستقامة والسواء . قال تعالى : { فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً } [ مريم : 43 ] . فلا جرم لا يُسْلم المتوكّل عليه للظّالمين .