ثم يؤمر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يتجرد وينفض يديه من أمر الغيب أيضا :
( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ) . .
إن الدعوة ليست من أمره ، وليس له فيها شيء ، إلا أن يبلغها قياما بالتكليف ، والتجاء بنفسه إلى منطقة الأمان - الذي لا يبلغه إلا أن يبلغ ويؤدي . وإن ما يوعدونه على العصيان والتكذيب هو كذلك من أمر الله ، وليس له فيه يد ، ولا يعلم له موعدا . فما يدري أقريب هو أم بعيد يجعل له الله أمدا ممتدا . سواء عذاب الدنيا أو عذاب الأخرة . فكله غيب في علم الله ؛ وليس للنبي من أمره شيء ، ولا حتى علم موعده متى يكون ! والله - سبحانه - هو المختص بالغيب دون العالمين :
( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) . .
ويقف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] متجردا من كل صفة إلا صفة العبودية . فهو عبد الله . وهذا وصفه في أعلى درجاته ومقاماته . . ويتجرد التصور الإسلامي من كل شبهة ومن كل غبش . والنبي [ صلى الله عليه وسلم ] يؤمر أن يبلغ فيبلغ : ( قل : إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا ، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ) . .
يقول تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد ؟ { قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا } ؟ أي : مدة طويلة .
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الحديث الذي يتداوله كثير من الجهلة من أنه عليه السلام ، لا يؤلف تحت الأرض ، كذب لا أصل له ، ولم نره في شيء من الكتب . وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن وقت الساعة فلا يجيب عنها ، ولما تَبدَّى له جبريل في صورة أعرابي كان فيما سأله أن قال : يا محمد ، فأخبرني عن الساعة ؟ قال : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " {[29388]} ولما ناداه ذلك الأعرابي بصوت جَهوريّ فقال : يا محمد ، متى الساعة ؟ قال : " ويحك . إنها كائنة ، فما أعددت لها ؟ " . قال : أما إني لم أعد لها كثير{[29389]} صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله . قال : " فأنت مع من أحببت " . قال أنس : فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث{[29390]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مُصفَى ، حدثنا محمد بن حمير{[29391]} حدثني أبو بكر بن أبي مريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده ، إنما توعدون لآت " {[29392]}
وقد قال أبو داود في آخر " كتاب الملاحم " : حدثنا موسى بن سهيل ، حدثنا حجاج بن إبراهيم ، حدثنا ابن وهب ، حدثني معاوية بن صالح ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن أبيه ، عن أبي ثَعلبة الخُشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم " {[29393]} انفرد به أبو داود ، ثم قال أبو داود :
حدثنا عمرو بن عثمان . حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم " . قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال : خمسمائة عام . انفرد به أبو داود{[29394]}
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنْ أَدْرِيَ أَقَرِيبٌ مّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّيَ أَمَداً * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىَ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَىَ مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىَ كُلّ شَيْءٍ عَدَداً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك : ما أدري أقريب ما يعدكم ربكم من العذاب وقيام الساعة أمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّي أمَدا يعني : غاية معلومة تطول مدتها .
كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم { متى هذا الوعد } [ النمل : 71 ] ، و { عن الساعة أيان مرساها } [ الأعراف : 187 ] ، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن ، فلما قال الله تعالى : { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً } [ الجن : 24 ] الآية علِم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت حلول الوعيد فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه .
فجملة { قل إن أدري أقريب ما توعدون } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر .
والأمد : الغاية وأصله في الأمكنة . ومنه قول ابن عمر في حديث « الصحيحين » : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقَ بين الخيل التي لم تُضَمَّر وجعل أمدَها ثنيةَ الوداع " ( أي غاية المسابقة ) . ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى : { فطال عليهم الأمد } [ الحديد : 16 ] وهو كذلك هنا . ومقابلته ب« قريب » يفيد أن المعنى أم يجعل له أمداً بعيداً .