وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها [ التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ] وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر : ( وإذا البحار فجرت ) . . فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ، وهو أشد هولا . أو على أي نحو آخر . وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول ؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة !
وقوله : { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب قال : قال علي ، رضي الله عنه ، لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر . فقال : ما أراه إلا صادقا . { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [ الطور : 6 ] ، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ مخففة ] {[29750]} {[29751]} .
وقال ابن عباس وغير واحد : يرسل الله عليها الدّبور فتسعرها ، وتصير نارًا تأجج ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو طاهر ، حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط - شيخٌ صَالِح يُشبهُ مالكَ بن أنس - عن معاوية بن سعيد قال : إن هذا البحر بركة - يعني بحر الرُّوم - وسط الأرض ، والأنهار كلها تصب فيه ، والبحر الكبير يصب فيه ، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس ، فإذا كان يوم القيامة أسجر .
وهذا أثر غريب عجيب . وفي سنن أبي داود : " لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز ، فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا " الحديث ، وقد تقدم الكلام عليه في سورة " فاطر " {[29752]} .
وقال مجاهد ، والحسن بن مسلم : { سُجِّرَت } أوقدت . وقال الحسن : يبست . وقال الضحاك ، وقتادة : غاض ماؤها فذهب ولم يبق فيها قطرة . وقال الضحاك أيضا : { سُجِّرَتْ } فجرت . وقال السدي : فتحت وسيرت . وقال الربيع بن خُثَيم{[29753]} { سُجِّرَتْ } فاضت .
وقوله : وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وإذا البحار اشتعلت نارا وحَمِيت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن حريث ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، قال : حدثنا الحسين بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، قال : ثني أُبيّ بن كعب وَإذَا الّبِحارُ سُجّرَتْ قال : قالت الجنّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحار ، فإذا هي تأجّج نارا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ فقال : البحر ، فقال : ما أراه إلا صادقا والْبَحْرِ المَسَجْورِ «وَإذَا الْبِحارُ سُجِرَتْ » مخففة .
حدثني حوثرة بن محمد المنِقريّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثنا مجالد ، قال : أخبرني شيخ من بجيلة عن ابن عباس ، في قوله : إذَا الشّمْسُ كُوّرَتْ قال : كوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر ، فيبعث عليها ريحا دبورا ، فتنفخه حتى يصير نارا ، فذلك قوله : وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَإذَا الْبِحارُ سُجرَتْ قال : إنها توقد يوم القيامة ، زعموا ذلك التسجير في كلام العرب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، في قوله : والْبَحْر المَسْجُور قال : بمنزلة التنور المسجور وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ مثله .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ قال : أُوقدت .
وقال آخرون : معنى ذلك : فاضت . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن ربيع بن خيثم وَإذَا الْبحارُ سُجّرَتْ قال : فاضت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن ربيع ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الكلبي ، في قوله : وَإذَا الّبِحارُ سُجّرَتْ قال : مُلئت ، ألا ترى أنه قال : وَالبَحْرِ المَسْجُورِ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ يقول : فُجّرت .
وقال آخرون : بل عني بذلك أنه ذهب ماؤها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وإذا الْبِحارَ سُجّرَتْ قال : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ قال : غار ماؤها فذهب .
حدثني الحسين بن محمد الذارع ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحسين ، في هذا الحرف وَإذَا الْبحارُ سُجّرَتْ قال : يبست .
حدثنا الحسين بن محمد ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن ، بمثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ قال : يبَست .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : قول من قال : معنى ذلك : مُلئت حتى فاضت ، فانفجرت وسالت كما وصفها الله به في الموضع الاَخر ، فقال : وإذا البحار فجّرت والعرب تقول للنهر أو للرّكيّ المملوء : ماء مسجور ومنه قول لبيد :
فَتَوَسّطا عُرْضَ السّرِى وَصَدّعا *** مَسْجُورَةً مُتَجاوِرا قُلاّمُها
ويعني بالمسجورة : المملوءة ماء .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة : سُجّرَتْ : بتشديد الجيم . وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة : بتخفيف الجيم . والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.