يحث تعالى ، المكذبين لرسولهم ، على السير في الأرض ، بأبدانهم ، وقلوبهم : وسؤال العالمين . { فَيَنْظُرُوا } نظر فكر واستدلال ، لا نظر غفلة وإهمال .
{ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } من الأمم السالفة ، كعاد ، وثمود وغيرهم ، ممن كانوا أعظم منهم قوة وأكثر أموالاً وأشد آثارًا في الأرض من الأبنية الحصينة ، والغراس الأنيقة ، والزروع الكثيرة { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } حين جاءهم أمر الله ، فلم تغن عنهم قوتهم ، ولا افتدوا بأموالهم ، ولا تحصنوا بحصونهم .
الدرس الثالث : 82 - 85 لفت أنظار الكفار للإعتبارمن مصارع السابقين
وفي الختام يجيء ذلك الإيقاع القوي الأخير :
( أفلم يسيروا في الأرض ، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض ، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون . فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فلما رأوا بأسنا قالوا : آمنا بالله وحده ، وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا . سنة الله التي قد خلت في عباده . وخسر هنالك الكافرون ) .
ومصارع الغابرين كثيرة في تاريخ البشرية ؛ وبعضها ما تزال له آثار تحكي قصته ؛ وبعضها حفظته الروايات على الألسنة ، أو حفظته الأوراق والكتب . والقرآن كثيراً ما يوجه القلوب إليها ، لما فيها من دلالة على حقائق ثابتة في خط سير البشرية ؛ ولما لها كذلك من أثر في النفس الإنسانية عميق عنيف . والقرآن يخاطب الفطرة بما يعلمه منزل هذا القرآن من حقيقة الفطرة ، ومساربها ومداخلها ، وأبوابها التي تطرق فتفتح ، بعضها بعد نقرة خفيفة وبعضها بعد طرقات كثيرة إن كان قد ران عليها الركام !
وهنا يسألهم وينشطهم للسير في الأرض ، بعين مفتوحة ، وحس متوفز ، وقلب بصير لينظروا ويتدبروا ما كان في الأرض قبلهم ؛ وما يتعرضون هم لجريانه عليهم :
( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ? ) . .
وقبل أن يذكر كيف كان هذه العاقبة ، يصف حال الذين من قبلهم ، ويقرن إليها حالهم هم لتتم الموازنة ، وتتم العبرة :
( كانوا أكثر منهم ، وأشد قوة وآثاراً في الأرض ) . .
توافرت لهم الكثرة والقوة والعمران . ومن هؤلاء أجيال وأمم كانت قبل العرب ، قص الله على رسوله بعضها ، ولم يقصص عليه بعضها . ومنهم من كان العرب يعرفون قصته ويمرون بآثاره . .
( فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) . .
ولم تعصمهم قوة ولا كثرة ولا عمارة ، مما كانوا يعتزون به ويغترون . بل كان هذا هو أصل شقائهم ، وسبب هلاكهم :
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدّ قُوّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَمَآ أَغْنَىَ عَنْهُم مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أفلم يسر يا محمد هؤلاء المجادلون في آيات الله من مشركي قومك في البلاد ، فإنهم أهل سفر إلى الشأم واليمن ، رحلتهم في الشتاء والصيف ، فينظروا فيما وطئوا من البلاد إلى وقائعنا بمن أوقعنا به من الأمم قبلهم ، ويروا ما أحللنا بهم من بأسنا بتكذيبهم رسلنا ، وجحودهم آياتنا ، كيف كان عقبى تكذيبهم . كانوا أكثر منهم يقول : كان أولئك الذين من قبل هؤلاء المكذّبيك من قريش أكثر عددا من هؤلاء وأشدّ بطشا ، وأقوى قوّة ، وأبقى في الأرض آثارا ، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ويتخذون مصانع . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وآثارا فِي الأرْضِ المشي بأرجلهم .
فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ يقول : فلما جاءهم بأسنا وسطوتنا ، لم يغن عنهم ما كانوا يعملون من البيوت في الجبال ، ولم يدفع عنهم ذلك شيئا ، ولكنهم بادوا جميعا فهلكوا . وقد قيل : إن معنى قوله : فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ فأيّ شيء أغنى عنهم وعلى هذا التأويل يجب أن يكون «ما » الأولى في موضع نصب ، والثانية في موضع رفع . يقول : فلهؤلاء المجادليك من قومك يا محمد في أولئك معتبر إن اعتبروا ، ومتعظ إن اتعظوا ، وإن بأسنا إذا حلّ بالقوم المجرمين لم يدفعه دافع ، ولم يمنعه مانع ، وهو بهم إن لم ينيبوا إلى تصديقك واقع .
تفريع هذا الاستفهام عقب قوله : { وَيُرِيكُم ءاياته } [ غافر : 81 ] ، يقتضي أنه مساوق للتفريع الذي قبله وهو { فَأَيَّ ءاياتت الله تُنكِرُونَ } [ غافر : 81 ] فيقتضي أن السيْر المستفهم عنه بالإِنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعينْ متصل بقوله : { وَلِتَبلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُم وعَلَيها وعَلَى الفُلْككِ تُحْمَلُونَ } [ غافر : 80 ] ، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله تعالى لما كذبت رُسله وجحدت آياته ونعمه .
وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا : { أوَلَمْ يَسِيروا في الأرْضِ فَيَنظُرُوا كَيفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانوا مِن قَبْلِهِم كَانُوا هم أَشَدَّ منهم قُوَّةً } [ غافر : 21 ] الآية ، فكان ما تقدم انتقالاً عقب آيات الإِنذار والتهديد ، وكان هذا انتقالاً عقب آيات الامتنان والاستدلال ، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد . وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يردعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين .
والقول في قوله : { أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ } إلى قوله : { وَءَاثَاراً في الأرْضِ } مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة ، وخولف في عطف جملة { أفَلَمْ يَسِيرُوا } بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريع لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة .
وجملة { فَمَا أغنى عَنْهم مَا كَانُوا يَكْسِبونَ } معترضة والفاء للتفريع على قوله : { كَانُوا أكْثَرَ مِنْهُم } وهو كقوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساق } [ ص : 57 ] وقول عنترة :
ولقد نَزَلْتِ فلا تظنّي غيره *** مني بمنزلة المحَبّ المكرَم
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة إن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.