وهل فوق ضلال من جعل إلهه معبوده [ هواه ]{[580]} فما هويه فعله فلهذا قال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } ألا تعجب من حاله وتنظر ما هو فيه من الضلال ؟ وهو يحكم لنفسه بالمنازل الرفيعة ؟
{ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا } أي : لست عليه بمسيطر مسلط بل إنما أنت منذر ، وقد قمت بوظيفتك وحسابه على الله .
ويلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يعزيه عن عنادهم وجموحهم واستهزائهم ، فهو لم يقصر في الدعوة ، ولم يقصر في الحجة ، ولم يستحق ما لاقوه به من التطاول ، إنما العلة فيهم أنفسهم . فهم يجعلون من هواهم إلها يعبدونه ، ولا يرجعون إلى حجة أو برهان . وماذا يملك الرسول لمن يتخذ إلهه هواه :
( أرأيت من اتخذ إلهه هواه . أفأنت تكون عليه وكيلا ? ) . .
وهو تعبير عجيب يرسم نموذجا عميقا لحالة نفسية بارزة ، حين تنفلت النفس من كل المعايير الثابتة والمقاييس المعلومة ، والموازين المضبوطة ، وتخضع لهواها ، وتحكم شهواتها وتتعبد ذاتها ، فلا تخضع لميزان ، ولا تعترف بحد ، ولا تقتنع بمنطق ، متى اعترض هواها الطاغي الذي جعلت منه إلها يعبد ويطاع .
والله - سبحانه - يخاطب عبده في رفق ومودة وإيناس في أمر هذا النموذج من الناس : ( أرأيت ? )ويرسم له هذه الصورة الناطقة المعبرة عن ذلك النموذج الذي لا جدوى من المنطق معه ، ولا وزن للحجة ، ولا قيمة للحقيقة ؛ ليطيب خاطره من مرارة الإخفاق في هدايته . فهو غير قابل للهدى ، وغير صالح لأن يتوكل الرسول بأمره ، ولا أن يحفل بشأنه : ( أفأنت تكون عليه وكيلا ? ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلََهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ سَبِيلاً } .
يعني تعالى ذكره : أرَأيْتَ يا محمد مَنِ اتّخَذَ إلَههُ شهوتَه التي يهواها وذلك أن الرجل من المشركين كان يعبد الحجر ، فإذا رأى أحسن منه رمى به ، وأخذ الاَخر يعبده ، فكان معبوده وإلهه ما يتخيره لنفسه فلذلك قال جلّ ثناؤه أرأيْتَ مَنَ اتّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ ، أفأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً يقول تعالى ذكره : أفأنت تكون يا محمد على هذا حفيظا في أفعاله مع عظيم جهله ؟ أم تَحْسبُ يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين يَسْمعُونَ ما يُتلى عليهم ، فيعون أوْ يَعْقِلُونَ ما يعاينون من حجج الله ، فيفهمون ؟ إنْ هُمْ إلاّ كالأَنْعامِ يقول : ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها ، ولا تفقه ، بل هم من البهائم أضلّ سبيلاً لأن البهائم تهتدي لمراعيها ، وتنقاد لأربابها ، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم ، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم ، بل يكفرونها ، ويعصون من خلقهم وبرأهم .
ثم أنس{[8832]} النبي صلى الله عليه وسلم عن كفرهم بقوله { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } الآية ، والمعنى لا تتأسف عليهم ودعهم لرأيهم ولا تحسب أنهم على ما يجب من التحصيل والعقل بل هم كالأنعام في الجهل بالمنافع وقلة التحسس للعواقب ، ثم حكم بأنهم { أضل سبيلاً } من حيث لهم الفهم وتركوه ، و { الأنعام } لا سبيل لهم إلى فهم المصالح ، ومن حيث جهالة هؤلاء وضلالتهم في أمر أخطر من الأمر الذي فيه جهالة الأنعام ، وقوله { اتخذ إلهه هواه } معناه جعل هواه مطاعاً فصار كالإله والهوى قائد إلى كل فساد لأن النفس أمارة بالسوء وإنما الصلاح إذ ائتمرت للعقل ، وقال ابن عباس الهوى الإله يعبد من دون الله ذكره الثعلبي ، وقيل الإشارة بقوله { إلهه هواه } إلى ما كانوا عليه من أنهم كانوا يعبدون حجراً فإذا وجدوا أحسن منه طرحوا الأول وعبدوا الثاني الذي وقع هواهم عليه ، قال أبو حاتم وروي عن رجل من أهل المدينه قال ابن جني هو الأعرج { إلهه هواه } والمعنى اتخذ شمساً يستضيء بها هواه إذا الشمس يقال لها إلهة وتصرف ولا تصرف{[8833]} ، و «الوكيل » القائم على الأمر الناهض به .
استئناف خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يخطر بنفسه من الحزن على تكرر إعراضهم عن دعوته إذ كان حريصاً على هداهم والإلحاح في دعوتهم ، فأعلمه بأن مثلهم لا يرجى اهتداؤه لأنهم جعلوا هواهم إلههم ، فالخطابُ للرسول صلى الله عليه وسلم .
وفعل { اتخذ } يتعدى إلى مفعولين وهو من أفعال التصيير الملحقة بأفعال الظن في العمل ، وهو إلى باب كَسا وأعطى أقرب منه إلى باب ظنّ ، فإن { اتخذ } معناه صيّر شيئاً إلى حالة غير ما كان عليه أو إلى صورة أخرى . والأصل فيه أن مفعوله الأول هو الذي أدخل عليه التغيير إلى حال المفعول الثاني فكان الحق أن لا يقدم مفعوله الثاني على مفعوله الأول إلا إذا لم يكن في الكلام لبس يلتبس فيه المعنى فلا يدري أي المفعولين وقع تغييره إلى مدلول المفعول الآخر ، أو كان المعنى الحاصل من التقديم مساوياً للمعنى الحاصل من الترتيب في كونه مراداً للمتكلم .
فقوله تعالى : { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } إذا أجري على الترتيب كان معناه جعل إلهه الشيء الذي يهوى عبادته ، أي ما يُحب أن يكون إلهاً له ، أي لمجرد الشهوة لا لأن إلهه مستحق للإلهية ، فالمعنى : من اتخذ رباً له محبوبه فإن الذين عبدوا الأصنام كانت شهوتهم في أن يعبدوها وليست لهم حجة على استحقاقها العبادة . فإطلاق { إلهه } على هذا الوجه إطلاق حقيقي . وهذا يناسب قوله قبله { إن كاد لَيُضِلُّنا عن آلهتنا } [ الفرقان : 42 ] ، ومعناه منقول عن سعيد بن جبير . واختاره ابن عرفة في « تفسيره » وجزم بأنه الصواب دون غيره وليس جزمه بذلك بوجيه وقد بحث معه بعض طلبته .
وإذا أجري على اعتبار تقديم المفعول الثاني كان المعنى : من اتخذ هواه قُدوة له في أعماله لا يأتي عملاً إلا إذا كان وفاقاً لشهوته فكأنَّ هواهُ إلهه . وعلى هذا يكون معنى { إلهه } شبيهاً بإلهه في إطاعته على طريقة التشبيه البليغ .
وهذا المعنى أشمل في الذم لأنه يشمل عبادتهم الأصنام ويشمل غير ذلك من المنكرات والفواحش من أفعالهم . ونحا إليه ابن عباس ، وإلى هذا المعنى ذهب صاحب « الكشاف » وابن عطية . وكلا المعنيين ينبغي أن يكون محملاً للآية .
واعلم أنه إن كان مجموع جملتي { أرأيتَ من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً } كلاماً واحداً متصلاً ثانيه بأوله اتصال المفعول بعامله ، تعين فعل « رأيت » لأن يكون فعلاً قلبياً بمعنى العلم وكان الاستفهام الذي في الجملة الأولى بقوله : { أرأيت } إنكارياً كالثاني في قوله : { أفأنت تكون عليه وكيلاً } وكان مجموع الجملتين كلاماً على طريقة الإجمال ثم التفصيل . والمعنى : أرأيتَك تكون وكيلاً على من اتخذ إلهه هواه ، وتكون الفاء في قوله { أفأنت } فاء الجواب للموصول لمعاملته معاملة الشرط ، وهمزة الاستفهام الثانية تأكيد للاستفهام الأول كقوله { أئذا كنا عظاماً ورفاتاً إنَّا لمبعوثون } [ الإسراء : 49 ] على قراءة إعادة همزة الاستفهام ، وتكون جملة { أفأنت تكون عليه وكيلاً } عوضاً عن المفعول الثاني لفعل { أرأيت } ، والفعل معلق عن العمل فيه بسبب الاستفهام على نحو قوله تعالى : { أفمن حَقّ عليه كلمةُ العذاب أفأنت تُنقذ من في النار } [ الزمر : 19 ] وعليه لا يوقف على قوله { هواه } بل يوصل الكلام . وهذا النظم هو الذي مشى عليه كلام « الكشاف » .
وإن كانت كل جملة من الجملتين مستقلةً عن الأخرى في نظْم الكلام كان الاستفهام الذي في الجملة الأولى مستعملاً في التعجيب من حال الذين اتخذوا إلههم هواهم تعجيباً مشوباً بالإنكار ، وكانت الفاء في الجملة الثانية للتفريع على ذلك التعجيب والإنكار ، وكان الاستفهام الذي في الجملة الثانية من قوله { أفأنت تكون عليه وكيلاً } إنكارياً بمعنى : إنك لا تستطيع قلعه عن ضلاله كما أشار إليه قوله قبله { من أضل سبيلاً } [ الفرقان : 42 ] .
و { مَن } صادقة على الجمع المتحدث عنه في قوله { وسوف يعلمون حين يَرون العذاب } [ الفرقان : 42 ] وروعي في ضمائر الصلة لفظ { مَن } فأُفردت الضمائر . والمعنى : من اتخذوا هواهم إلهاً لهم أو من اتخذوا آلهة لأجل هواهم .
و« إله » جنس يصدق بعدة آلهة إن أريد معنى اتخذوا آلهة لأجل هواهم . وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله { أنت تكون عليه وكيلاً } للتقوِّي إشارة إلى إنكار ما حَمَّل الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه من الحرص والحزن في طلب إقلاعهم عن الهوى كقوله تعالى : { أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } [ يونس : 99 ] . والمعنى : تكون وكيلاً عليه في حال إيمانه بحيث لا تفارق إعادة دعوته إلى الإيمان حتى تلجئه إليه .