{ 30 - 31 } { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا }
{ وَقَالَ الرَّسُولُ } مناديا لربه وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به ، ومتأسفا على ذلك منهم : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي } الذين أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم ، { اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا } أي : قد أعرضوا عنه وهجروه وتركوه مع أن الواجب عليهم الانقياد لحكمه والإقبال على أحكامه ، والمشي خلفه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الرّسُولُ يَرَبّ إِنّ قَوْمِي اتّخَذُواْ هََذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً مّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىَ بِرَبّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وقال الرسول يوم يعضّ الظالم على يديه : يا ربّ إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك اتخذوا هذا القرآن مهجورا .
واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا ، فقال بعضهم : كان اتخاذهم ذلك هُجرا ، قولهم فيه السيىء من القول ، وزعمهم أنه سحر ، وأنه شعر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : اتّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا قال : يهجُرون فيه بالقول ، يقولون : هو سحر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : وَقالَ الرّسُولُ . . . الاَية : يهجرون فيه بالقول . قال مجاهد : وقوله : مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرا تَهْجُرُونَ قال : مستكبرين بالبلد سامرا مجالس تهجرون ، قال : بالقول السيىء في القرآن غير الحقّ .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، في وقول الله : إنّ قَوْمي اتّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا قال : قالوا فيه غير الحقّ ألم تر إلى المريض إذا هذى قال غير الحقّ .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَقالَ الرّسُولُ يا رَبّ إنّ قَوْمي اتّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا لا يريدون أن يسمعوه ، وإن دعوا إلى الله قالوا لا . وقرأ : وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأَوْنَ عَنْهُ قال : ينهون عنه ، ويبعدون عنه .
قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بتأويل ذلك ، وذلك أن الله أخبر عنهم قالوا : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، وذلك هجرهم إياه .
وقوله تعالى : { وقال الرسول } ، حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه ، هذا قول الجمهور ، وهو الظاهر ، وقالت فرقة هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «قومي » بتحريك الياء والباقون بسكونها ، و { مهجوراً } يحتمل أن يريد مبعداً مقصياً من الهَجر بفتح الهاء . وهذا قول ابن زيد . ويحتمل أن يريد مقولاً فيه الهُجر بضم الهاء{[8821]} إشارة إلى قولهم شعر وكهانة وسحر وهذا قول مجاهد وإبراهيم النخعي .
قال القاضي أبو محمد : وقول ابن زيد منبه للمؤمنين على ملازمة المصحف وأن لا يكون الغبار يعلوه في البيوت ويشتغل بغيره ، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من علق مصحفاً ولم يتعاهده جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول هذا اتخذني { مهجوراً } افصل يا رب بيني وبينه »{[8822]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الرسول يا رب إن قومي} قريشا {اتخذوا هذا القرءان مهجورا}، يقول: تركوا الإيمان بهذا القرآن، فهم مجانبون له.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال الرسول يوم يعضّ الظالم على يديه: يا ربّ إن قومي الذين بعثتني إليهم لأدعوهم إلى توحيدك "اتخذوا هذا القرآن مهجورا". واختلف أهل التأويل في معنى اتخاذهم القرآن مهجورا؛
فقال بعضهم: كان اتخاذهم ذلك هُجرا، قولهم فيه السيئ من القول، وزعمهم أنه سحر، وأنه شعر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الخبر عن المشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولم يسمعوا له... قال ابن زيد، في قول الله: "وَقالَ الرّسُولُ يا رَبّ إنّ قَوْمي اتّخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُورا "لا يريدون أن يسمعوه، وإن دعوا إلى الله قالوا لا. وقرأ: "وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأَوْنَ عَنْهُ" قال: ينهون عنه، ويبعدون عنه.
وهذا القول أولى بتأويل ذلك، وذلك أن الله أخبر عنهم قالوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه"، وذلك هجرهم إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال بعضهم: المهجور، هو الذي لا ينتفع به ولا يعمل به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الرسول: محمد صلى الله عليه وسلم وقومه قريش، حكى الله عنه شكواه قومه إليه. وفي هذه الحكاية تعظيم للشكاية وتخويف لقومه؛ لأن الأنبياء كانوا إذا التجأوا إليه وشكوا إليه قومهم حلّ بهم العذاب ولم ينظروا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وقال الرسول}، حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الدنيا وتشكيه ما يلقى من قومه، هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة هو حكاية عن قوله ذلك في الآخرة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد -صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين- أنه قال: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا}، وذلك أن المشركين كانوا لا يُصغُون للقرآن ولا يسمعونه، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] وكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه. وترك علمه وحفظه أيضا من هجرانه، وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدولُ عنه إلى غيره -من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره- من هجرانه، فنسأل الله الكريمَ المنانَ القادرَ على ما يشاء، أن يخلّصنا مما يُسْخطه، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطرافَ النهار، على الوجه الذي يحبه ويرضاه، إنه كريم وهاب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر سبحانه أقوال الكفار إلى أن ختم بالإضلال عن الذكر، وكانوا مع إظهارهم التكذيب به وأنه مفتعل في غاية الطرب له، والاهتزاز به، والتعجب منه، والمعرفة بأنه يكون له نبأ، أشار إلى ذلك بقوله: عاطفاً على {وقالوا ما لهذا الرسول} معظماً لهذه الشكاية منه صلى الله عليه وسلم، مخوفاً لقومه لأن الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا شكوا أنزل بقومهم عذاب الاستئصال: {وقال الرسول} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم: {يا رب} أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة، وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه مبالغة في التضرع {إن قومي} أي قريشاً الذين لهم قوة وقيام ومنعة {اتخذوا} أي يتكليف أنفسهم ضد ما اتخذه {هذا القرآن} أي المقتضي للاجتماع عليه والمبادرة إليه {مهجوراً} أي متروكاً، فأشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً، لما يرون من حسن نظمه، ويذوقون من لذيذ معانيه، ورائق أساليبه، ولطيف عجائبه، وبديع غرائبه، كما تعرّف به قصة أبي جهل وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق حين كانوا يستمعون لقراءته ليلاً، كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحباه، ثم يجمعهم الطريق إذا أصبحوا فيتلاومون ويتعاهدون على أن لا يعودوا، ثم يعودون حتى فعلوا ذلك ثلاث ليال ثم أكدوا على أنفسهم العهود حتى تركوا ذلك كما هو مشهور في السير..
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
" قال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا".
لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن، والإعراض والصد عنه. و ما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة، على ما كان منهم من ذلك في الدنيا – ذكر ما قاله النبي -– صلى الله عليه وآله وسلم – من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
(مهجورا): متروكا مقاطعا مرفوعا عنه.
(الرسول): محمد – صلى الله عليه وآله وسلم، (وقومه) قريش.
في قوله: (يا رب): إظهار لعظيم التجائه، وشدة اعتماده. وتمام تفويضه لمالكه ومدبر أمره، وموالي الإنعام عليه.
وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب – بيان لعظيم جرمهم بتركهم للقرآن، وهو قريب منهم في متناولهم 38، وقد أتاهم به واحد منهم، أقرب الناس إليهم، فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب، وهذا أقبح الصد وأظلمه.
وفي قوله: (اتخذوا...) بيان أنهم جعلوا الهجر ملازما له ووصفا من أوصافه عندهم. وذلك أعظم من أن يقال: هجروه الذي يفيد وقوع الهجران منهم، دون دلالة على الثبوت والملازمة.
قال الرسول شاكيا لربه: إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم، قد صدوا عنه وتركوه، وثبتوا على تركه وهجره.
في شكوى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من هجرة القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
و في حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه.
ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به.. فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى و هذا الوعيد.
ونحن – معشر المسلمين – قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنا به مؤمنين:
- بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها، وقلنا: تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة، وإشكالاتها المتعددة، وإصلاحاتها [لعل الصواب: واصطلاحاتها] المحدثة، مما يصعب أمره على الطلبة فضلا عن العامة.
- و بين القرآن أصول الأحكام، وأمهات مسائل الحلال والحرام، ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام، فهجرنا واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.
- و بين القرآن مكارم الأخلاق ومنافعه، ومساوئ الأخلاق ومضارها، وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك، مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بتدسيتها.
فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا، واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع.
وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي والتخيل الفلسفي، ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها، والاقتصار على بقية رسومه للانتفاع منها، ومعارضة هداية القرآن بها.
- وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة، لننظر ونستفيد ونعمل.
فهجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب، وبدائع الزهور، والحوت، والصخرة، وقرن الثور!
- ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه، والتفكر في آياته، ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبينه.
فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلا، بل ويصير مدرسا متصدرا ولم يفعل ذلك!
و في جامع الزيتونة – عمره الله تعالى – إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير، فإنه ويا للمصيبة يقع في خصومات لفظية، بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه، في القواعد التي كان يجب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياما وشهورا، فتنتهي السنة وهو لايزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلا دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير. وإنما قضى سنته في المحاكمات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات. كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية.
فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن!
وعلمنا القرآن أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما أتاهم، و ينتهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن. فهجرناها كما هجرناه، و عاملناها بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس – من كبار العلماء في أكبر المعاهد – من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلا عن غيرهم من أهل العلم، وفضلا عن غيرها من كتب السنة.
وكم وكم وكم بيّن القرآن!!! وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران!!!
شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجوه الناس إليهم، وإلى ما وضعوه عنه، لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعديا، وبلاؤهم متجاوزا وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.
وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم، في كتاب (إعلام الموقعين) عن حماد بن سلمة، ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة، عن معاذ بن جبل، قال:
"تكون فتن، فيكثر المال، ويفتح القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير، والمنافق والمؤمن، فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول: والله لأقرأنه علانية، فيقرأه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فإياكم وإياه، فإنه بدعة وضلالة".
فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعا للصلاة، ووضع كتبا من عنده، أو مما وضعه أسلافه من قبله، وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها وهجروا القرآن.
وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع بما صرف عباده عن كتاب الله. و إنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمى صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه و أكد في التحذير بالتكرير.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على معاذ، فهو في حكم المرفوع، لأنه بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه و نقاسيه.
إلا بالرجوع إلى القرآن: إلى علمه وهديه.
وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه.
والتفقه فيه و في السنة النبوية شرحه وبيانه.
والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين.
وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه، ميسر على من توكل على الله فيه.
وقد بدت طلائعه – والحمد لله – و هي آخذة في الزيادة إن شاء الله، وسبحانه من يحيي العظام وهي رميم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذه الجولة في اليوم العسير يعود بهم إلى الأرض يستعرض موقفهم مع الرسول [صلى الله عليه وسلم] واعتراضاتهم على طريقة تنزيل القرآن. ثم ينهي هذه الجولة بمشهدهم كذلك يوم الحشر والنشور: (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا. وقال الذين كفروا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا. الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا).. لقد هجروا القرآن الذي نزله الله على عبده لينذرهم. ويبصرهم. هجروه فلم يفتحوا له أسماعهم إذ كانوا يتقون أن يجتذبهم فلا يملكون لقلوبهم عنه ردا. وهجروه فلم يتدبروه ليدركوا الحق من خلاله، ويجدوا الهدي على نوره. وهجروه فلم يجعلوه دستور حياتهم، وقد جاء ليكون منهاج حياة يقودها إلى أقوم طريق: (وقال الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا).. وإن ربه ليعلم؛ ولكنه دعاء البث والإنابة، يشهد به ربه على أنه لم يأل جهدا، ولكن قومه لم يستمعوا لهذا القرآن ولم يتدبروه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على أقوال المشركين ومناسبته لقوله: {لقد أضلّني عن الذكر} [الفرقان: 29] أن الذكر هو القرآن فحكيت شكاية الرسول إلى ربّه قومَه من نبذهم القرآن بتسويل زعمائهم وسادتهم الذين أضلوهم عن القرآن، أي عن التأمل فيه بعد أن جاءهم وتمكنوا من النظر، وهذا القول واقع في الدنيا والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في الشكاية. والمقصود من حكاية قول الرسول إنذار قريش بأن الرسول توجه إلى ربّه في هذا الشأن فهو يستنصر به ويوشك أن ينصره، وتأكيده ب {إنّ} للاهتمام به ليكون التشكّي أقوى. والتعبير عن قريش ب {قومي} لزيادة التذمر من فعلهم معه لأن شأن قوم الرجل أن يوافقوه. وفعل الاتخاذ إذا قيّد بحالة يفيد شدة اعتناء المتَّخذ بتلك الحالة بحيث ارتكب الفعل لأجلها وجعله لها قصداً. فهذا أشد مبالغة في هجرهم القرآن من أن يقال: إن قومي هجروا القرآن. واسم الإشارة في {هذا القرآن} لِتَعظيمه وأن مثله لا يُتّخَذ مهجوراً بل هو جدير بالإقبال عليه والانتفاع به. والمهجور: المتروك والمفارَق. والمراد هنا ترك الاعتناء به وسماعِه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحذر كتاب الله أمة الإجابة أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من إهمال كتاب الله، وتجاهل ما تضمنه من عقائد وشرائع وتعاليم أخلاقية، وتوجيهات كونية، مؤكدا أن خاتم الأنبياء والمرسلين سيشكو أمته إلى ربه، شكوى لوم ومؤاخذة وتقريع، على هجرها للقرآن، وتمسكها بعقائد غير مطابقة لعقائده، وحكمها بشرائع مناقضة لشرائعه، وأخذها في حياتها بسلوك منحرف دخيل لا يتفق مع مبادئه. وبديهي أن الله تعالى الذي اصطفى لرسالته محمدا من بين خلقه لا يهمل شكوى خاتم أنبيائه ورسله، وسيؤاخذ الذين هجروا الذكر الحكيم في الدنيا والآخرة، وهذه الشكوى الصارخة هي التي تضمنها قوله تعالى هنا: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}. و "قومه "صلى الله عليه وسلم يشمل أمته كلها من البداية إلى النهاية، سواء من عاصر الرسالة ومن جاء بعدها إلى يوم الدين. أما عقاب من عامل كتاب الله بالهجران والنسيان، فقد جاء صريحا واضحا في قوله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى}. [طه: 124 127]...