وقوله : وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ يقول : وأقيموا لسان الميزان بالعدل .
وقوله : وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ يقول تعالى ذكره : ولا نتقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة والسّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ المِيزَانَ ألاّ تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ قال قتادة قال ابن عباس : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم ، اتقى الله رجل عند مِيزانه ، اتقى الله رجل عند مكياله ، فإنما يعدله شيء يسير ، ولا ينقصه ذلك ، بل يزيده الله إن شاء الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ قال : نقصه ، إذا نقصه فقد خَسّره تخسيره نقصه .
والإِقامة : جعل الشيء قائماً ، وهو تمثيل للإِتيان به على أكمل ما يراد له وقد تقدم عند قوله : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) .
والوزن حقيقته : تحقيق تعادل الأجسام في الثقل ، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس . ٍ
والقسط : العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة : قسطاس ، ومرة : قسط ، وتقدم في قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } في سورة الأنبياء ( 47 ) .
والباء للمصاحبة . والمعنى : اجعلوا العدل ملازماً لما تقوّمونه من أموركم كما قال تعالى : { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } [ الأنعام : 152 ] وكما قال : { ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا } [ المائدة : 8 ] ، فيكون قوله : { بالقسط } ظرفاً مستقراً في موضع الحال ، أو الباء للسببية ، أي راعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل ، فيكون قوله : { بالقسط } طرفاً لغواً متعلقاً ، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى : { ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } [ المطففين : 1 3 ] .
فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه ، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله : { ولا تخسروا الميزان } فإن حُمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه ، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيهاً على شدة عناية الله بالعدل ، وإنْ حُمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين ( 3 ) { وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } والإِخسار : جعل الغير خاسرا والخسارة النقص .
فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإِخسار جعل صاحب الحق خاسراً مغبوناً ؛ ويكون الميزان } منصوباً على نزع الخافص ، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإِخسار بمعنى النقص ، أي لا تجعلوا الميزان ناقصاً كما قال تعالى : { ولا تنقصوا المكيال والميزان } [ هود : 84 ] ، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وأقِيمُوا الوَزْنَ بالقِسْطِ" يقول: وأقيموا لسان الميزان بالعدل. وقوله: "وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ" يقول تعالى ذكره: ولا تنقصوا الوزن إذا وزنتم للناس وتظلموهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وأقيموا الوزن بالمكيال الذي تحبون أن تُكَالوا به، وعلى الوصف الذي ترجون أن تنالوا به مطعمكم ومشربكم دون تطفيف...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} وقوّموا وزنكم بالعدل {وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان}[...] أمر بالتسوية ونهى عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرّر لفظ الميزان: تشديداً للتوصية به، وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«ولا تُخسروا» من أخسر، أي نقص وأفسد...
{وأقيموا الوزن بالقسط} يحتمل وجهين:
(أحدهما) أقيموا بمعنى قوموا به كما في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} أي قوموا بها دواما، لأن الفعل تارة يعدى بحرف الجر، وتارة بزيادة الهمزة، تقول: أذهبه وذهب به.
(ثانيها) أن يكون أقيموا بمعنى قوموا، يقال: في العود أقمته وقومته، والقسط العدل...
والميزان ذكره الله تعالى ثلاث مرات كل مرة بمعنى آخر، فالأول هو الآلة {ووضع الميزان}، والثاني بمعنى المصدر {ألا تطغوا في الميزان} أي الوزن، والثالث للمفعول: {ولا تخسروا الميزان} أي الموزون، وذكر الكل بلفظ الميزان لما بينا أن الميزان أشمل للفائدة،...
فإن قيل: ما الفائدة في تقديم السماء على الفعل حيث قال: {والسماء رفعها} وتقديم الفعل على الميزان حيث قال: {ووضع الميزان}؟ نقول: قد ذكرنا مرارا أن في كل كلمة من كلمات الله فوائد لا يحيط بها علم البشر إلا ما ظهر والظاهر هاهنا أنه تعالى لما عد النعم الثمانية كما بينا وكان بعضها أشد اختصاصا بالإنسان من بعض فما كان شديد الاختصاص بالإنسان قدم فيه الفعل، كما بينا أن الإنسان يقول: أعطيتك الألوف وحصلت لك العشرات، فلا يصرح في القليل بإسناد الفعل إلى نفسه، وكذلك يقول: في النعم المختصة، أعطيتك كذا، وفي التشريك وصل إليك مما اقتسمتم بينكم كذا، فيصرح بالإعطاء عند الاختصاص، ولا يسند الفعل إلى نفسه عند التشريك، فكذلك هاهنا ذكر أمورا أربعة بتقديم الفعل، قال تعالى: {علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان} {ووضع الميزان} وأمورا أربعة بتقديم الاسم، قال تعالى: {والشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء رفعها، والأرض وضعها} لما أن تعليم القرآن نفعه إلى الإنسان أعود، وخلق الإنسان مختص به، وتعليمه البيان كذلك ووضع الميزان، كذلك لأنهم هم المنتفعون به الملائكة، ولا غير الإنسان من الحيوانات، وأما الشمس والقمر والنجم والشجر والسماء والأرض فينتفع به كل حيوان على وجه الأرض وتحت السماء.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فاقتدوا بأفعالي وتخلقوا بكل ما آمر به من أقوالي، عطف عليه قوله: {وأقيموا الوزن} أي جميع الأفعال التي يقاس لها الأشياء {بالقسط}. ولما كان المراد العدل العظيم، بينه بالتأكيد بعد الأمر بالنهي عن الضد فقال: {ولا تخسروا الميزان}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس. ٍ والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: قسط،... والباء للمصاحبة. والمعنى: اجعلوا العدل ملازماً لما تقوّمونه من أموركم...
قوله تعالى: {ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، تنبيه للمؤمنين إلى أنهم ينبغي أن يتخلقوا بخلق الله، وأن يستمدوا من سنن الله الثابتة في خلقه منهاج سلوكهم في حياتهم، بالنسبة لأنفسهم وبالنسبة لبقية الناس، وذلك أن يقيموا حياتهم على أساس من الحكمة والعدل، وحسن التقدير والتدبير، حتى لا يلحقها خلل كبير أو صغير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وضرورة التناسب للآيات يوجب تكرار كلمة «الميزان» ثلاث مرّات، لأنّ الحديث في المرحلة الأولى، كان عن الموازين والمعايير والقوانين التي وضعها الله تعالى لكلّ عالم الوجود. وفي المرحلة الثانية يتحدّث سبحانه عن ضرورة عدم طغيان البشر في كلّ موازين الحياة، سواء كانت الفردية أو الاجتماعية. وفي المرحلة الثالثة يؤكّد على مسألة الوزن بمعناها الخاصّ، ويأمر البشر أن يدقّقوا في قياس ووزن الأشياء في التعامل، وهذه أضيق الدوائر...
وبهذا الترتيب نلاحظ الروعة العظيمة للانسجام في الآيات المباركة، حيث تسلسل المراتب وحسب الأهمية في مسألة الميزان والمقياس، والانتقال بها من الدائرة الأوسع إلى الأقل فالأقل...
إنّ أهميّة الميزان في أي معنى كان عظيمة في حياة الإنسان بحيث إنّنا إذا حذفنا حتّى مصداق الميزان المحدود والصغير والذي يعني (المقياس) فإنّ الفوضى والارتباك سوف تسود المجتمع البشري، فكيف بنا إذا ألغينا المفهوم الأوسع لهذه الكلمة، حيث ممّا لا شكّ فيه أنّ الاضطراب والفوضى ستكون بصورة أوسع وأشمل...