ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم ، فقال : { وما كان قولهم } أي : في تلك المواطن الصعبة { إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف : هو مجاوزة الحد إلى ما حرم ، علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان ، وأن التخلي منها من أسباب النصر ، فسألوا ربهم مغفرتها .
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر ، بل اعتمدوا على الله ، وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملاقاة الأعداء الكافرين ، وأن ينصرهم عليهم ، فجمعوا بين الصبر وترك ضده ، والتوبة والاستغفار ، والاستنصار بربهم ،
{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَن قَالُواْ ربّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِيَ أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } : وما كان قول الربيين . والهاء والميم من ذكر أسماء الربيين . { إلاّ أنْ قالُوا } يعني ما كان لهم قول سوى هذا القول إذ قتل نبيهم . وقوله : { رَبّنا اغْفِرْ لنا ذُنُوبَنا } يقول : لم يعتصموا إذ قتل نبيهم إلا بالصبر على ما أصابهم ، ومجاهدة عدوّهم ، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوّهم . ومعنى الكلام : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } . وأما الإسراف : فإنه الإفراط في الشيء ، يقال منه : أسرف فلان في هذا الأمر إذا تجاوز مقداره فأفرط ، ومعناه ههنا : اغفر لنا ذنوبنا الصغار منها وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام . وكان معنى الكلام : اغفر لنا ذنوبنا ، الصغائر منها والكبائر . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أيو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } : خطايانا وظلمنا أنفسنا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد الله بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يعني : الخطايا الكبار .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو تميلة ، عن عبيد بن سليمان ، عن الضحاك بن مزاحم ، قال : الكبائر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } قال : خطايانا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : { وَإسْرَافَنا في أمْرِنا } يقول : خطايانا .
وأما قوله : { وَثَبّتْ أقْدَامَنا } فإنه يقول : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوّك وقتالهم ، ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفرّ منهم ، ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم . { وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } يقول : وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوّة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عزّ وجلّ عباده الذين فرّوا عن العدوّ يوم أحد وتركوا قتالهم ، وتأديب لهم ، يقول الله عزّ وجلّ : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم ، كما فعل هؤلاء الربيون ، الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء ، إذ قتلت أنبياؤهم ، فصبرتم لعدوكم صبرهم ، ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم ، فتحاولوا الارتداد على أعقابكم ، كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوّهم ، وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا ، فينصركم الله عليهم كما نصروا ، فإن الله يحبّ من صبر لأمره وعلى جهاد عدوّه ، فيعطيه النصر والظفر على عدوّه . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا رَبّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإسْرَافَنا في أمْرِنا وَثَبّتْ أقْدَامَنا وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرِينَ } : أي فقولوا كما قالوا ، واعلموا أنما ذلك بذنوب منكم ، واستغفروا كما استغفروا ، وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم ، ولا ترتدّوا على أعقابكم راجعين ، واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم ، واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان وقد قتل نبيهم ، فلم يفعلوا كما فعلتم .
والقراءة التي هي القراءة في قوله : { وَما كانَ قَوْلَهُمْ } النصب لإجماع قراء الأمصار على ذلك نقلاً مستفيضا وراثة عن الحجة . وإنما اختير النصب في القول ، لأن «إلا أن » لا تكون إلا معرفة ، فكانت أولى بأن تكون هي الاسم دون الأسماء التي قد تكون معرفة أحيانا ونكرة أحيانا ، ولذلك اختير النصب في كل اسم ولي «كان » إذا كان بعده «أن » الخفيفة ، كقوله : { فَما كانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاّ أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرّقُوهُ } وقوله : { ثُمّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتَهُمْ إلاّ أنْ قالُوا } . فأما إذا كان الذي يلي كان اسما معرفة ، والذي بعده مثله ، فسواء الرفع والنصب في الذي ولي «كان » ، فإن جعلت الذي ولي «كان » هو الاسم رفعته ونصبت الذي بعده ، وإن جعلت الذي ولي «كان » هو الخبر نصبته ورفعت الذي بعده ، وذلك كقوله جلّ ثناؤه : { ثُمّ كانَ عاقِبَةَ الّذِينَ أساءُوا السّوأى } إن جعلت «العاقبة » الاسم رفعتها ، وجعلت «السوأى » هي الخبر منصوبة ، وإن جعلت «العاقبة » الخبر نصبت ، فقلت : وكان عاقبة الذين أساءوا السوأى ، وجعلت السوأى هي الاسم ، فكانت مرفوعة ، وكما قال الشاعر :
لقدْ عَلِمَ الأقوَامُ ما كانَ دَاءَها *** بَثهْلانَ إلا الخِزْيُ مِمّنْ يَقُودُها
رُوى أيضا : «ما كان داؤها بثهلان إلا الخزيَ » ، نصبا ورفعا ، على ما قد بينت ، ولو فعل مثل ذلك مع «أن » كان جائزا ، غير أن أفصح الكلام ما وصفت عند العرب .
{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول ، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم هضما لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالها والاستغفار عنها ، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة ، فيكون أقرب إلى الإجابة ، وإنما جعل قولهم خيرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث .
هذه الآية في ذكر الربيين ، أي هذا كان قولهم ، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد ، من قول من قال : نأخذ أماناً من أبي سفيان ومن قول من قال : نرجع إلى ديننا الأول ، ومن قول من فر ، فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة ، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «قولَهم » بالنصب ، ويكون الاسم فيما بعد { إلا } وقرا جماعة من القراء «قولُهم » بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد { إلا } وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ذكره المهدوي ، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى : { ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض ، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب ، وكذلك فسر ابن عباس وغيره ، وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة ، وقولهم : { وثبت أقدامنا } يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار ، فيكون المعنى : اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك ، وتثبيت القدم على هذا : استعارة ، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله : { وانصرنا على القوم الكافرين } فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب ، قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ، لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعى فيما لا يفعله .