{ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ْ } أي : لا توبخوهم ، ولا تجلدوهم أو تقتلوهم .
{ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ْ } أي : إنهم قذر خبثاء ، ليسوا بأهل لأن يبالى بهم ، وليس التوبيخ والعقوبة مفيدا فيهم ، { و ْ } تكفيهم عقوبة جهنم جزاء بما كانوا يكسبون .
ثم أخبر - سبحانه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ، سيؤكدون أعذارهم الكاذبة بالأيمان الفاجرة فقال : { سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ . . . } .
أى : أنهم سيحلفون بالله لكم - أيها المؤمنون - إذا ما رجعتم إليهم من تبوك وذلك لكى تعرضوا عنهم فلا توبخوهم على قعودهم ، ولا تعنفوهم على تخلفهم .
وقوله { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ } تعليل لوجوب الإِعراض عنهم ، لا على سبيل الصفح والعفو ، بل على سبيل الإِهمال والترك والاحتقار .
أى : فأعرضوا - أيها المؤمنون - عن هؤلاء المنافقين المتخلفين ، لأنهم " رجس " .
أى : قذر ونجس لسوء نواياهم ، وخبث طواياهم .
وقد جعلهم - سبحانه - نفس الرجس . مبالغة في نجاسة أعمالهم ، وقبح بواطنهم .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة .
أى : أنهم في الدنيا محل الاحتقار والازدراء لنجاسة بواطنهم ، أما في الآخرة فمستقرهم وموطنهم جهنم بسبب ما اكتسبوه من أعمال قبيحة ، وما اجترحوه من أفعال سيئة .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بدل مما قبله .
قيل إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك وذلك أن بعض المنافقين اعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، واستأذنوه في القعود قبل مسيره فأذن لهم فخرجوا من عنده وقال أحدهم والله ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : والله لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فيكم قرآن ، فقالوا له وما ذلك ؟ فقال لا أحفظ إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : والله لوددت أن أجلد مائة جلدة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق برسول الله صلى اله عليه وسلم ، فقال له ما جاء بك ؟ فقال : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح وأنا في الكنّ ، فروي أنه ممن تاب وقوله : { فأعرضوا عنهم } أمرنا بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق .
وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المغالطة مبسوطاً ، وقوله { رجس } أي نتن وقذر ، وناهيك بهذا الوصف محطة دنياوية ، ثم عطف بمحطة الآخرة فقال { ومأواهم جهنم } أي مسكنهم ، ثم جعل ذلك جزاء بتكسبهم المعاصي والكفر مع أن ذلك مما قدره الله وقضاه لا رب غيره ولا معبود سواه ، وأسند الطبري عن كعب بن مالك أنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك جلس للناس فجاءه المخلفون يعتذرون إليه ويحلفون ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى .
الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم . ومعناها ناشئ عن مضمون جملة { لن نؤمن لكم } [ التوبة : 94 ] تنبيهاً على أنهم لا يرعَوُون عن الكذب ومخادعة المسلمين ، فإذا قيل لهم { لن نؤمن لكم } [ التوبة : 94 ] حلفوا على أنهم صادقون ترويجاً لخداعهم : وهذا إخبار بما سيلاقِي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو .
و { إذا } هنا ظرف للزمن الماضي . وحذف المحلوف عليه لظهوره ، ولتقدم نظيره في قوله : { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } [ التوبة : 42 ] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج .
والانقلاب : الرجوع ، وتقدم في قوله { انقلبتم على أعقابكم } في آل عمران ( 144 ) .
وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم ، أي عن عتابهم وتقريعهم ، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطييب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملّص من مسبة العتاب ولَذْعِه . ولذلك قال في الآيتين الأخريين { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] { يحلفون لكم لترضَوا عنهم } [ التوبة : 96 ] لأنّ ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يُعرض المسلمون عنهم .
وأدخل حرف ( عن ) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم . ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله : { فأعرضوا عنهم } ، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً .
وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنّه أجيبت طِلبته حتى إذا تأمّل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأساً لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملةَ المسلمين ، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه . فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أو من القول بالموجَب .
وجملة : { إنهم رجس } تعليل للأمر بالإعراض . ووقوع ( إنّ ) في أولها مؤذن بمعنى التعليل .
والرجس : الخبث . والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس . فهو رجس معنوي . كقوله : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] .
و { جزاء } حال من { جهنم } ، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: سيحلف أيها المؤمنون بالله لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، "إذَا انْقَلَبْتُمْ إلَيْهِمْ "يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، "لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ" فلا تؤنبوهم، "فأعْرِضُوا عَنْهُمْ" يقول جلّ ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق؛ "إنّهُمْ رِجْسٌ ومَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ" يقول: إنهم نجس "ومأواهم جهنم"، يقول: ومصيرهم إلى جهنم وهي مسكنهم الذي يأوونه في الآخرة. "جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسَبُونَ" يقول: ثوابا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله...
قوله تعالى: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ}؛ هو كقوله: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ}؛ لأن الرِّجْسَ يعبَّر به عن النَّجَس، ويقال: رِجْسٌ نِجْسٌ على الاتباع؛ وهذا يدل على وجوب مجانبة الكفار وترك موالاتهم ومخالطتهم وإيناسهم وتقويتهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد أنهم في حَلفِهِم باللهِ لكم أن يدفع السوءَ مِنْ قِبَلِكم، وليس قصْدهم بذلك خلوصاً في اعتذارهم، ولا ندامةً على ما احتقبوه من أوزارهم، إنما ذلك لتُعْرِضُوا عنهم... فأَعْرِضوا عنهم؛ فإِنَّ ذلك ليس بمُنْجِيهم مما سيلقونه غداً من عقوبة الله لهم، فإِنَّ اللهَ يُمْهِلُ العاصيَ حتى يتَوهَّمَ أنه قد تَجَاوَزَ عنه، وما ذلك إلا مَكْرٌ عُومِل به، فإذا أذاقه ما يستوجِبُه عَلِمَ أن الأمرَ بخلاف ما ظنّه، وما ينفع ظاهرٌ مغبوطٌ، والحال -في الحقيقة- يأسٌ من الرحمة وقنوطٌ..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فأعطوهم طلبتهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل لترك معاتبتهم، يعني أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار، وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم.
{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يعني وكفتهم النار عتاباً وتوبيخاً، فلا تتكلفوا عتابهم.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم في الآية الأولى أنهم يعتذرون، ذكر في هذه الآية أنهم كانوا يؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة.
أما قوله: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} فاعلم أن هذا الكلام يدل على أنهم حلفوا بالله، ولم يدل على أنهم على أي شيء حلفوا؟ فقيل: إنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج...ثم قال تعالى: {فأعرضوا عنهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ترك الكلام والسلام. قال أهل المعاني: هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فأعطوا إعراض المقت..
{إنهم رجس} والمعنى: أن خبث باطنهم رجس روحاني، فكما يجب الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية، فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى، خوفا من سريانها إلى الإنسان، وحذرا من أن يميل طبع الإنسان إلى تلك الأعمال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب: الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم، فقال سبحانه: {سيحلفون بالله} أي الذي لا أعظم منه {لكم إذا انقلبتم إليهم} أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم {لتعرضوا عنهم} أي إعراض الصفح عن معاتبتهم {فأعرضوا عنهم} إعراض المقت... ثم علل وجوب الإعراض بقوله {إنهم رجس} أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث.
ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال: {ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم جزاء} أي لأجل جزائهم {بما كانوا يكسبون} أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} سيؤكدون لكم اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا انقلبتم وتحولتم إليهم من سفركم، لأجل أن تعرضوا عن عتبهم وتوبيخهم على قعودهم مع الخالفين من النساء والأطفال والعجزة، وبخلهم بالنفقة، ولم يذكر المحلوف عليه للدلالة على شموله لكل ما يعتذر عنه.
{فأعرضوا عنهم} إعراض إهانة واحتقار، لا إعراض صفح وإعذار، وهذا التعبير من أسلوب الحكيم، وهو قبول ما يبغون من الإعراض عنهم، ولكن على غير الوجه الذي يرجونه منه بل على ضده، وقد علل الأمر بقوله: {إنهم رجس} أي قذر معنوي يجب الإعراض عنه تنزها عن القرب منه بأشد مما يتنزه الطاهر الثوب والبدن عن ملابسة الأرجاس والأقذار الحسية. وهذا بمعنى ما تقدم من قوله 28 {إنما المشركون نجس}، وسبق بيان معنى الرجس في تفسير آية {إنما الخمر والميسر} [المائدة: 93] من سورة المائدة.
{ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون} أي وملجؤهم الأخير نار جهنم جزاء بما كانوا يكسبون في الدنيا من أعمال النفاق التي دنست أنفسهم، والإعراض عن آيات الله الذي زادهم رجسا على رجسهم، كما تراه في الآية (125) الآتية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الجملة مستأنفة ابتدائية تعداد لأحوالهم. ومعناها ناشئ عن مضمون جملة {لن نؤمن لكم} [التوبة: 94] تنبيهاً على أنهم لا يرعَوُون عن الكذب ومخادعة المسلمين، فإذا قيل لهم {لن نؤمن لكم} [التوبة: 94] حلفوا على أنهم صادقون ترويجاً لخداعهم: وهذا إخبار بما سيلاقِي به المنافقون المسلمين قبل وقوعه وبعد رجوع المسلمين من الغزو.
و {إذا} هنا ظرف للزمن الماضي. وحذف المحلوف عليه لظهوره، ولتقدم نظيره في قوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} [التوبة: 42] إلا أن ما تقدم في حلفهم قبل الخروج.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم في قوله {انقلبتم على أعقابكم} في آل عمران (144).
وصرح بعلة الحلف هنا أنه لقصد إعراض المسلمين عنهم، أي عن عتابهم وتقريعهم، للإشارة إلى أنهم لا يقصدون تطييب خواطر المسلمين ولكن أرادوا التملّص من مسبة العتاب ولَذْعِه. ولذلك قال في الآيتين الأخريين {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} [التوبة: 62] {يحلفون لكم لترضَوا عنهم} [التوبة: 96] لأنّ ذلك كان قبل الخروج إلى الغزو فلما فات الأمر وعلموا أن حلفهم لم يصدقه المسلمون صاروا يحلفون لقصد أن يُعرض المسلمون عنهم.
وأدخل حرف (عن) على ضمير المنافقين بتقدير مضاف يدل عليه السياق لظهور أنهم يريدون الإعراض عن لومهم. ففي حذف المضاف تهيئة لتفريع التقريع الواقع بعده بقوله: {فأعرضوا عنهم}، أي فإذا كانوا يرومون الإعراض عنهم فأعرضوا عنهم تماماً.
وهذا ضرب من التقريع فيه إطماع للمغضوب عليه الطالب بأنّه أجيبت طِلبته حتى إذا تأمّل وجد ما طمع فيه قد انقلب عكس المطلوب فصار يأساً لأنهم أرادوا الإعراض عن المعاتبة بالإمساك عنها واستدامة معاملتهم معاملةَ المسلمين، فإذا بهم يواجهون بالإعراض عن مكالمتهم ومخالطتهم وذلك أشد مما حلفوا للتفادي عنه. فهم من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أو من القول بالموجَب.
وجملة: {إنهم رجس} تعليل للأمر بالإعراض. ووقوع (إنّ) في أولها مؤذن بمعنى التعليل.
والرجس: الخبث. والمراد تشبيههم بالرجس في الدناءة ودنس النفوس. فهو رجس معنوي. كقوله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} [المائدة: 90].
و {جزاء} حال من {جهنم}، أي مجازاة لهم على ما كانوا يعملون.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي الآية التالية إشارة أُخرى إِلى أيمان المنافقين الكاذبين، وتنبيه للمسلمين على أنّ هؤلاء سيتوسلون باليمين الكاذبة لتغفروا لهم خطيئاتهم وتصفحوا عنهم (سيحلفون بالله لكم إِذا انقلبتم إِليهم لتعرضوا عنهم).
في الحقيقة، إِنّ هؤلاء يطرقون كل باب ليردّوا منه، فتارةً يريدون إِثبات براءتهم وعدم تقصيرهم بالاعتذار، وتارةً يعترفون بالتقصير ثمّ يطلبون العفو عن ذلك التقصير، إِذ ربّما استطاعوا عن إحدى هذه الطرق النفوذ إِلى قلوبكم، لكن لا تتأثروا بأي أُسلوب من هذه الأساليب، بل إِذا جاؤوكم ليعتذروا إِليكم (فاعرضوا عنهم).
إنّ هؤلاء يطلبون منكم أن تعرضوا عن أفعالهم، أي أن تصفحوا عنهم، لكنكم يجب أن تعرضوا عنهم، لكن لا بالصفح والعفو، بل بالتكذيب والإنكار عليهم، وهذان التعبيران المتشابهان لفظاً لهما معنيان متضادان تماماً، ولهما هنا من جمال التعبير وجزالته وبيانه ما لا يخفى على أهل الذوق والبلاغة.
ولتأكيد المطلب وتوضيحه وبيان دليله عقّبت الآية بأن السبب في الاعراض عن هؤلاء (إنّهم رجس)، ولأنّهم كذلك فإنّ مصيرهم (ومأواهم جهنم) لأنّ الجنّة أُعدت للمتقين الذين يعملون الصالحات، وليس فيها موضع للأرجاس الملوّثين بالمعاصي. إن كل العواقب السيئة التي سيلقونها إنما يرونها (جزاء بما كانوا يكسبون).