البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{سَيَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمۡ إِذَا ٱنقَلَبۡتُمۡ إِلَيۡهِمۡ لِتُعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمۡۖ إِنَّهُمۡ رِجۡسٞۖ وَمَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ} (95)

{ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأنّ سبب الحلف هو طلبتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فاعرضوا عنهم أي : فأجيبوهم إلى طلبتهم .

وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال : { رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } فمن كان رجساً لا تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس .

ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أنْ يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبيَّن العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأنّ مآل أمرهم إلى النار .

قال ابن عباس : فاعرضوا عنهم لا تكلموهم .

وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال : " لا تجالسوهم ولا تكلموهم "

قيل : إنّ هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن فخرجوا وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، " فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك ؟ قال : لا أحفظ ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أنْ أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له : «ما جاء بك » ؟ فقال له : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن " فروي أنه ممن تاب .

قال ابن عطية : فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطاً .

وقوله : رجس أي نتن وقذر .

وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة .

ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله .