ثم قال - تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } والثلة : الجماعة الكثيرة من الناس ، وأصلها : القطعة من الشىء . . . وهى خبر لمبتدأ محذوف ، وللمفسرين فى المراد بالثلة من الأولين ، وبالقليل من الآخرين ، اتجاهان :
أولهما : يرى أصحاب أن المراد بقوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } : أولئك السابقون من الأمم الكثيرة السابقة على الأمة الإسلامية ، وهم الذين صدقوا أنبياءهم وعزروهم ونصروهم .
والمراد بقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } المؤمنون من هذه الأمة الإسلامية .
وعلى هذا المعنى صار صاحب الكشاف . فقد قال : الثلة ، الأمة الكثيرة من الناس ، قال الشاعر :
وجاءت إليهم ثلة خندقية . . . بجيش كتيار من السيل مزبد
وقوله - عز وجل - : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } كفى به دليلا على الكثرة - أى فى لفظ { ثُلَّةٌ } - وهو من الثل وهو الكسر - : كأنها جماعات كسرت من الناس وقطعت منهم .
والمعنى : أن السابقين من الأولين كثير ، وهم الأمم من لدن آدم - عليه السلام - إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - . . { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم .
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن الخطاب فى قوله - تعالى - : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } للأمة الإسلامية خاصة ، وأن المراد بقوله { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } صدر هذه الأمة الاسلامية .
وأن المراد بقوله - تعالى - : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } من أتى بعد صدر هذه الأمة إلى يوم القيامة .
وقد أفاض الإمام ابن كثير فى ترجيح هذا القول ، فقال ما ملخصه : وقد اختلفوا فى المراد بقوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } فقيل : المراد بالأولين الأمم الماضية ، وبالآخرين من هذه الأمة . . . وهو اختيار ابن جرير .
وهذا الذى اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر ، بل هو قول ضعيف ، لأن هذه الأمة ، هى خير الأمم بنص القرآن . فيبعد أن يكون المقربون أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة . .
فالقول الراجح أن يكون المراد بقوله - تعالى - { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } أى : من صدر هذه الأمة .
والمراد بقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } أى : من هذه الأمة . .
وروى عن الحسن أنه قال : أما السابقون فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين .
وقد رجح بعض العلماء القول الأول فقال ما ملخصه : وقد اختلف أهل العلم فى المراد بهذه الثلة من الأولين ، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا .
كما اختلفوا فى الثلتين المذكورتين فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } وظاهر القرآن يفيد فى هذا المقام : أن الأولين فى الموضعين من الأمم الماضية ، والآخرين فيهما من هذه الأمة .
وأن قوله - تعالى - : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } فى السابقين خاصة .
وأن قوله - تعالى - : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } فى أصحاب اليمين خاصة .
وذلك لشموال الآيات لجميع الأمم ، إذ قوله - تعالى - : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } خطاب لجميع أهل المحشر ، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين . منهم من هو من الأمم السابقة ، ومنهم من هو من هذه الأمة . . .
ولا غرابة فى أن يكون السابقون من الأمم السابقة أكثر . . . لأن الأمم الماضية أمم كثيرة . . وفيهم أنبياء كثيرون .
وأما أصحاب اليمين من هذه الأمة ، فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جمع الأمم ، لأن الثلة تتناول العدد الكثير وقد يكون أحد العددين . . . الكثيرين ، أكثر من الآخر ، مع أنهما كلاهما كثير .
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير . لا ينافى ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة . .
الثلة : الجماعة والفرقة ، وهو يقع للقليل والكثير ، واللفظ في هذا الموضوع يعطي أن الجملة { من الأولين } أكثر من الجملة { من الآخرين } ، وهي التي عبر عنها بالقليل .
واختلف المتأولون في معنى ذلك ، فقال قوم حكى قولهم مكي : المراد بذلك الأنبياء ، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عدداً ، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره : المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة ، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد فأولئك أكثر لا محالة ، وإما أن يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر . وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت : { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } [ الواقعة : 39-40 ] فرضوا{[10886]} . وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر { ثلة } وفي آخر الأمة { قليل } « . وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه : » الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة { ثلة } وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ){[10887]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: جماعة من الأمم الماضية، وقليل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم الآخرون وقيل لهم الآخرون: لأنهم آخر الأمم" على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ "يقول: فوق سُرر منسوجة، قد أدخل بعضها في بعض... وقيل: إنما قيل لها سُرر موضونة، لأنها مشبكة بالذهب والجوهر... عن ابن عباس "على سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ" قال: مرمولة بالذهب...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها مصفوفة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وقليل من الآخرين " إنما قال ذلك لأن الذين سبقوا إلى إجابة النبي (صلى الله عليه وآله) قليل من كثير ممن سبق إلى النبيين...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
أي الذين جاءوا من بعدهم، في الأزمنة التي حدثت فيها الغير وتبرجت الدنيا لخطابها ونسي معها سر البعثة، وحكمة الدعوة، فما أقل الماشين على قدم النبي صلوات الله عليه وصحابه لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء لقلتهم...
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
المراد بالأولين أول هذه الأمة، أي: ثلة من أول هذه الأمة، وقليل من آخرها، وهذا القول هو الصحيح، بل هو المتعين.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.