السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَلِيلٞ مِّنَ ٱلۡأٓخِرِينَ} (14)

{ وقليل من الآخرين } وهم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كان الأنبياء عليهم السلام مئة ألف ونيفاً وعشرين ألفاً ، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهو مؤمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين ست مئة ألف ، فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من البالغين الصبيان ومن النساء ، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم السلام المجدّدين من بني إسرائيل وغيرهم . قال البيضاوي : ولا يخالف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : «أمتي يكثرون سائر الأمم » . لجواز أن يكون سابقو سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمة ، وتابعوا هذه الأمّة أكثر من تابعيهم .

قيل : لما نزلت هذه الآية شق على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت { ثلة من الأوّلين وثلة من الآخرين } فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني » . رواه أبو هريرة رضي الله عنه . ذكره الماوردي وغيره ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود وكأنه أراد أنها منسوخة ؛ قال الرازي : وهذا في غاية الضعف لأنّ عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة والمراد بالأولين الأنبياء وكبار أصحابهم وهم إذا اجتمعوا كانوا أكثر من السابقين من هذه الأمّة ولأنّ هذا خبر والخبر لا ينسخ ، وقال الحسن : سابقوا من مضى أكثر من سابقينا فلذا قال تعالى : { وقليل من الآخرين } وقال في أصحاب اليمين : وهم سوى السابقين { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } ولذا قال صلى الله عليه وسلم «إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة ثم تلا { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } » . وروى الطبراني : أنّ الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة فتكون الصحابة كلهم من هذه الثلة ، وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى ؛ ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال التي بدأ عليها من الغربة ، «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء أي وهم الذين إذا فسد الناس صلحوا ، كما فسر به النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، وقال أبو بكر : كلا الثلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها ، وهو مثل قوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ فاطر : 32 ] وقيل : المراد بالأولين { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وبالآخرين { ذرياتهم } الملحقون بهم في قوله تعالى : { وأتبعتهم ذريتهم بإيمان } [ الطور : 21 ] ألحقنا بهم ذرياتهم ، واشتقاق الثلة وهي مبتدأ من الثل وهو القطع والخبر .