قوله : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } .
«ثلّة » خبر مبتدأ مضمر ، أي «هم » .
ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، أي منهم ثلّة .
أي : من السابقين ، يعني أن التقسيم وقع [ بينهم ]{[54740]} .
وأن يكون مبتدأ خبره { فِي جَنَّاتِ النعيم } .
و«الثُلّة » : الجماعة من الناس ، وقيدها الزمخشري بالكثيرة{[54741]} .
وجَاءَتْ إليْهِمْ ثُلَّةٌ خِندفيَّةٌ *** بِجَيْشٍ كتيَّارٍ من البَحْرِ مُزْبدِ{[54742]}
ولم يقيدها غيره ، بل صرح بأنها الجماعة قلّت أو كثرت .
وقال الرَّاغب{[54743]} : الثلّة : قطعة مجتمعة من الصُّوف ؛ ولذلك قيل للمقيم : «ثَلَّة » يعني بفتح الثَّاء .
أمْرَعَتِ الأرْضُ لَوْ أنّ مالا *** لوْ أنَّ نُوقاً لَكَ أو جِمَالا
أوْ ثلَّةً مِنْ غَنَمٍ إمَّا لا{[54744]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم قال : «ولاعتبار الاجتماع ، قيل : { ثلّة من الأولين ، وثلّة من الآخرين } أي جماعة ، وثللت كذا : تناولت ثلّة منه ، وثلَّ عرشُه : أسقط ثلّة منه والثّلل : قصر الأسنان لسقوط ثلَّة منها ، وأثل فمُه : سقطت ، وتَثَلَّلَتِ الرُّكبَة : تَهَدَّمت » انتهى .
فقد أطلق أنها الجماعة من غير قيد بقلّة ولا بكثرة . والكثرة التي فهمها الزمخشري قد تكون من السياق .
وقال الزجاج{[54745]} : الثلّة : الفرقة .
و«مِنَ الأوَّلِينَ » صفة ل «ثُلَّة » ، وكذلك «من الآخرين » صفة ل «قَلِيل » .
فصل في المراد بقوله : ثلّة من الأوّلين
قوله تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } . أي جماعة من الأمم الماضية .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } أي : ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الحسن : «ثُلَّةٌ » ممن قد مضى قبل هذه الأمة ، «وقليلٌ » من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم{[54746]} اللهم اجعلنا منهم بكرمك .
وسموا قليلاً بالإضافة إلى من كان قبلهم ؛ لأن الأنبياء المتقدمين كثروا ، فكثر السابقون إلى الإيمان بهم ، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا .
( قيل : لما نزلت هذه الآية شقَّ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ){[54747]} فنزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنِّي لأرجُو أن تكُونُوا رُبْعَ أهْلِ الجنَّةِ ، بَلْ نِصْف أهلِ الجنَّة ، وتُقاسِمُونهُم في النِّصْفِ الثانِي » . رواه أبو هريرة ذكره الماوردي وغيره ، ومعناه ثابت في «صحيح مسلم » ، من حديث عبد الله بن مسعود{[54748]} ، وكأنه أراد أنها منسوخة .
قال ابن الخطيب{[54749]} : وهذا في غاية الضعف من وجوه :
أحدها : أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في ذلك الزمان ، بل إلى آخر الزمان بالنسبة إلى ما مضى في غاية القلة ، فالمراد بالأولين : الأنبياء وكبار أصحابهم ، وهم إذا جمعوا أكثر من السَّابقين من هذه الأمة .
الثاني : أن هذا خبر ، والخبر لا ينسخ .
الثالث : أن هذه الآية في السَّابقين ، والتي بعدها في أصحاب اليمين .
الرابع : أنه إذا جعل قليل منهم مع الأنبياء والرسل المتقدمين كانوا في درجة واحدة ، وذلك يوجب الفرح ؛ لأنه إنعام عظيم ، ولعلّ الإشارة إليه بقوله عليه الصلاة والسلام : «عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ »{[54750]} .
قال القرطبي : «والأشبه أنها محكمة ؛ لأنها خبر ، والخبر لا ينسخ ؛ لأن ذلك في جماعتين مختلفتين » .
قال الحسن : سابقو من مضى أكثر من سابقينا{[54751]} ، فلذلك قال : { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } ، وقال في أصحاب اليمين ، وهم سوى السابقين : { ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين } .
ولذلك [ قال عليه الصلاة والسلام : «إنِّي لأرجُو أن تكُونَ أمَّتِي شطْرَ أهْلِ الجنَّةِ » ، ثم تلا : { ثلة من الأولين ، وثلة من الآخرين }{[54752]} ] {[54753]} .
وقال أبو بكر رضي الله عنه : كلا الثُّلتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمنهم من هو في أول أمته ، ومنهم من هو في آخرها{[54754]} .
وهو مثل قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذنِ الله } [ فاطر : 32 ] .
وقيل : المراد { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، فإن أكثرهم لهم الدَّرجة العليا ، كما قال تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ } [ الحديد : 10 ] .
{ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } لحقوهم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «خَيْرُكُمْ قرني ثم الذينَ يَلُونَهُم »{[54755]} ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين .
قال ابن الخطيب{[54756]} : وعلى هذا فقوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يكون خطاباً مع الموجودين وقت التنزيل ، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا - عليه الصلاة والسلام - وهذا ظاهر ؛ لأن الخطاب لا يتعلق إلاَّ بالموجودين من حيث اللفظ ، ويدخل فيه غيره بالدليل .
ووجه آخر : أن المراد بالأولين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وبالآخرين ، أي : ذرياتهم الملحقون بهم في قوله تعالى : { واتّبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] .
وقال الزَّجَّاج{[54757]} : الذين عاينوا جميع النبيين من لدُن آدم وصدقوهم أكثر مما عاين النبي صلى الله عليه وسلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.