تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

فظهر الفرس على الروم فغلبوهم غلبا لم يحط بملكهم بل بأدنى أرضهم ، ففرح بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون ، فأخبرهم اللّه ووعدهم{[637]} أن الروم ستغلب الفرس .


[637]:- كذا في ب، وفي أ: بوعده.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - : { غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } روايات منها ، ما رواه ابن جرير - بإسناده - عن عبد الله بن مسعود - رضى الله عنه - قال : " كانت فارس ظاهرة على الروم . وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقرب إلى دينهم ، فلما نزلت : { الاما غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض } قالوا : يا أبا بكر . إن صاحبك يقول : إن الروم تظهر على فراس فى بضع سنين : قال : صدق . قالوا هل لك أن نقامرك ؟ - أى : نراهنك وكان ذلك قبل تحريم الرهان - فبايعوه على أربع فلائص - جمع قلوص ، وهى من الإِبل : اشابة - إلى سبع سنين . فمضت السبع ولميكن شئ . ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين ، فذكر للنبى صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم ؟ قالوا : دون العشر .

قال : اذهب فزايدهم ، وازدد سنتين فى الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك " .

وقال بعض العلماء : اتفق المؤرخون من المسلمين وأهل الكتاب على ان ملك فارس كان قد غزا بلاد الشام مرتين : فى سنة 613 ، وفى سنة 614 ، أى : قبل الهجرة بسبع سنين ، فحدث أن بلغ الخبر مكة . ففرح المشركون ، وشتموا فى المسلمين . . فنزلت هذه الآيات .

فلم يمض من البضع - وهو ما بين الثلاث إلى التسع - سبع سنين ، إلا وقد انتصر الروم على الفرس ، وكان ذلك سنة 621م . أى : قبل الهجرة بسنة .

وأدنى بمعنى أقرب . والمراد بالأرض : أرض الروم .

أى : غلبت الروم فى أقرب أرضها من بلاد الفرس .

قال ابن كثير : وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم ، حين غلبت الروم ، بين أذرعات وبصرى ، - على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما - ، وهى طرف بلاد الشام ممايلى الحجاز .

وقال مجاهد : كان ذلك فى الجزيرة ، وهى أقرب بلاد الروم من فارس .

وقال الآلوسى : والمراد بالأرض . أرض الروم ، على أن " أل " نائبة مناب الضمير المضاف إليه ، والأقربية بالنظر إلى أهل مكة ، لأن الكلام معهم .

أو المراد أرض مكة ونواحيها ، لأنها الأرض المعهودة عندهم ، والأقربية بالنظر إلى الروم .

وقوله - تعالى - : { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } بشارة من الله - تعالى - للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سيحقق لهم ما يرجونه من انتصار الروم على الفرس .

أى وهم - أى الروم - من بعد هزيمتهم من الفرس ، سينتصرون عليهم ، خلال بضع سنين .

والتعبير بقوله - تعالى - : { سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، لتأكيد هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمر الأمم ، وقد تحقق هذا الوعد ، وبيان أن نصر الروم على فارس سيتم خلال سنوات قليلة من عمرا لأمم ، وقد تحقق هذا الوعد على أكمل صورة وأتمها ، فقد انتصر الروم على الفرس نصرا عظيما ، وثبت أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - حيث أخبر عن أمور ستقع فى المستقبل ، وقد وقعت كما أخبر .

وقوله - سبحانه - : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } جملة معترضة لبيان قدرة الله - تعالى - التامة النافذة ، فى كل وقت وآن . أى : لله - تعالى - وحده الأمر النافذ من قبل انتصار الفرس على الروم ، ومن بعد انتصار الروم على الفرس : وكلا الفريقين كان نصره أو هزيمته بإرادة الله ومشيئته ، وليس أحد من الخلق أن يخرج عما قدره - سبحانه - وأراده .

{ وَيَوْمَئِذٍ } أى : ويوم أن يتغلب الروم على الفرس { يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } حيث نصر أهل الكتاب وهم الروم ، على من لا كتاب لهم وهم الفرس ، الذين كانوا يعبدون النار فأبطل - سبحانه - بهذا النصر شماتة المشركين فى المسلمين ، وازنداد المؤمنون ثبتاتا على ثباتهم .

قال ابن كثير : وقد كانت نصرة الروم على فارس ، يوم وقعة بدر ، فى قول طائفة كبيرة من العلماء . . فلما انتصرت الروم على فارس ، فرح المؤمنون بذلك ، لأن الروم أهل كتاب فى الجملة ، فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس .

وقوله - سبحانه - : { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } مؤكد لما قبله . أى : ينصر - سبحانه - من يريد نصره ، ويهزم من يريد هزيمته ، وهو ، العزيز الذى لا يغلبه غالب ، الرحيم الذى وسعت رحمته كل شئ .

ثم زاد - سبحانه - هذا الأمر تأكيدا وتقوية فقال : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وهم أبناء عم بني إسرائيل ، ويقال لهم : بنو الأصفر . وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة يافث بن نوح ، أبناء {[22746]} عم الترك . وكانوا يعبدون الكواكب السيارة السبعة ، ويقال لها : المتحيرة ، ويصلون إلى القطب الشمالي ، وهم الذين أسسوا دمشق ، وبنوا معبدها ، وفيه محاريب إلى جهة الشمال ، فكان{[22747]} الروم على دينهم إلى مبعث المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ، وكان من ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له : قيصر . فكان أول من دخل في دين النصارى من الملوك قسطنطين بن قسطس ، وأمه مريم الهيلانية الشدقانية{[22748]} من أرض حران ، كانت قد تنصرت قبله ، فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفا ، فتابعها - يقال : تَقِيَّة - واجتمعت به النصارى ، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافا [ كثيرًا ]{[22749]} منتشرا متشتتا لا ينضبط ، إلا أنه اتفق من جماعتهم{[22750]} ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة ، وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين - يعنون كتب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغَيَّروا دين المسيح ، عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه . وفصلوا إلى المشرق{[22751]} واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير . واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس{[22752]} والغطاس ، وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساقسة ، ثم الشمامسة . وابتدعوا الرهبانية . وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه{[22753]} اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاثة{[22754]} محاريب ، وبنت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك .

ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف ، ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة " . {[22755]} والغرض أنهم استمروا على النصرانية ، كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده ، حتى كان آخرهم هرقل . وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم ، وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا ، فتمَلَّكَ عليهم في رياسَة عظيمة وأبهة كبيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، ومَلكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي ، وجميع بلاد العجم ، وهو سابور ذو الأكتاف . وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وله رياسة العجم وحماقة الفرس ، وكانوا مجوسا يعبدون النار . فتقدم عن عكرمة أنه بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكَسَره وقصره ، حتى لم يبق معه سوى مدينة قسطنطينية . فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ، ولم يقدر كسرى على فتح البلد ، ولا أمكنه ذلك لحصانتها ؛ لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من{[22756]} ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمَدَد من هنالك . فلما طال الأمر دبر قيصر مكيدة ، ورأى في نفسه خديعة ، فطلب من كسرى أن يقلع عن بلاده على مال يصالحه عليه ، ويشترط عليه ما شاء . فأجابه إلى ذلك ، وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا{[22757]} ، من ذهب وجواهر وأقمشة وجوار وخدام وأصناف كثيرة . فطاوعه قيصر ، وأوهمه أن عنده جميع ما طلب ، واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ، ولو اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عُشْره ، وسأل كسرى أن يُمكّنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته ، ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه ، فأطلق سراحه ، فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية ، جمع أهل ملته وقال : إني خارج في أمر قد أبرمته ، في جند قد عينته من جيشي ، فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم ، وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار ، إن شئتم استمررتم على بيعتي ، وإن شئتم وليتم عليكم غيري . فأجابوه بأنك ملكنا ما دمت حيا ، ولو غبت عشرة أعوام . فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط ، هذا وكسرى مُخَيّم على القسطنطينية ينتظره ليرجع ، فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس ، فعاث في بلادهم قتلا لرجالها ومن بها من المقاتلة ، أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن ، وهي كرسي مملكة كسرى ، فقتل من بها ، وأخذ جميع حواصله وأمواله ، وأسر نساءه وحريمه ، وحلق رأس ولده ، ورَكّبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان والذلة ، وكتب إلى كسرى يقول : هذا ما طلبت فخُذه . فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله عز وجل ، واشتد حنقه على البلد ، فاشتد{[22758]} في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك . فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة جيحون ، التي لا سبيل{[22759]} لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها ، فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها ، وهو أنه أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة ، وركب في بعض الجيش ، وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت معه ، وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ، ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر ، فلما مرت بكسرى ظن هو وجنده أنهم قد خاضوا من هنالك ، فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس ، وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض في الخوض ، فخاضوا وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ، ودخلوا القسطنطينية . وكان ذلك يوما مشهودًا عند النصارى ، وبقي كسرى وجيوشه {[22760]} حائرين لا يدرون ماذا يصنعون . لم يحصلوا على بلاد قيصر ، وبلادُهم قد خَرّبتها الروم وأخذوا حواصلهم ، وسبوا ذراريهم ونساءهم . فكان هذا من غَلب الروم فارسَ ، وكان ذلك بعد تسع{[22761]} سنين من غلب الفرس للروم{[22762]} .

وكانت الواقعة الكائنة بين فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبُصرى ، على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما ، وهي طرف بلاد الشام مما يلي بلاد الحجاز .

وقال مجاهد : كان ذلك في الجزيرة ، وهي أقرب بلاد الروم من فارس ، فالله{[22763]} أعلم .

ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين ، وهي تسع ؛ فإن البِضْعَ في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع . وكذلك جاء في الحديث الذي رواه الترمذي ، وابن جرير وغيرهما ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجُمَحي ، عن الزهري ، عن عبُيَد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مُنَاحَبَة{[22764]} { الم غُلِبَتِ الرُّومُ } ألا احتطت يا أبا بكر ، فإن البضع ما بين ثلاث إلى تسع ؟ " ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه{[22765]} .

وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن عمرو : أنه قال ذلك{[22766]} .


[22746]:- في أ: "أتباع".
[22747]:- في ف: "وكان".
[22748]:- في ت: "القندقانية" وفي ف: "الغندقانية".
[22749]:- زيادة من ت، ف، أ.
[22750]:- في ت: "جماعته".
[22751]:- في ت، ف، أ: "وصلوا إلى الشرق"
[22752]:- في ف، أ: "والقرابين".
[22753]:- في أ: "زمانه".
[22754]:- في ف: "بثلاث".
[22755]:- سنن أبي داود برقم (4596) وابن ماجه في السنن برقم (3992) وقال البوصيري في الزوائد: "إسناد عوف بن مالك فيه مقال، وراشد بن سعد قال فيه أبو حاتم: صدوق. وعباد بن يوسف لم يخرج له أحد سوى ابن ماجه، وليس له عندي سوى هذا الحديث قال ابن عدي: روى أحاديث تفرد بها. وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد ثقات"
[22756]:- في ت: "في".
[22757]:- في ت: "الأرض".
[22758]:- في أ: "فجد".
[22759]:- في أ: "لا مسلك".
[22760]:- في ت، ف، أ: "وجنوده".
[22761]:- في ت: "ثلاث".
[22762]:- في ت، ف: "من غلب فارس للروم" وفي أ: "من غلب فارس الروم".
[22763]:- في ف: "والله".
[22764]:- في ت: "مبايعته".
[22765]:- سنن الترمذي برقم (3191) وتفسير الطبري (21/12).
[22766]:- تفسير الطبري (21/16).

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

فالمقصود من الكلام هو جملة { وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } وكان ما قبله تمهيداً له . وإسناد الفعل إلى المجهول لأن الغرض هو الحديث على المغلوب لا على الغالب ولأنه قد عرف أن الذين غَلَبوا الروم هم الفرس .

و { الروم } : اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاطينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا . تقومت هذه الأمة المسماة الروم على هذا المزيج فجاءت منها مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول . وقد أطلق العرب على مجموع هذه الأمة اسم الروم تفرقة بينهم وبين الرومان اللاطينيين ، وسمَّوا الروم أيضاً ببني الأصفر كما جاء في حديث أبي سفيان عن كتاب النبي المبعوث إلى هرقل سلطان الروم وهو في حمص من بلاد الشام إذ قال أبو سفيان لأصحابه لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة إنه يخافه مَلِك بني الأصفر .

وسبب اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكوُّن أمة الروم من الخليطين ، هو أن اليونان كان لهم استيلاء على صقلية وبعض بلاد إيطاليا وكانوا بذلك في اتصالات وحروب سجال مع الرومان ربما عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجاً بسبب الفتوحات وتسربت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بفتوحات يوليوس قيصر لمصر وشمال أفريقيا وبلاد اليونان وبتوالي الفتوحات للقياصرة من بعده فصارت تبلغ من رومة إلى أرمينيا والعراق ، ودخلت فيها بلاد اليونان ومدائن رودس وساقس وكاريا والصقالبة الذين على نهر الطونة ولحق بها البيزنطيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البسفور . وهم أصناف من اليونان والإسبرطيين . وكانوا أهل تجارة عظيمة في أوائل القرن الرابع قبل المسيح ثم ألّفوا اتحاداً بينهم وبين أهل رودس وساقس وكانت بيزنطة من جملة مملكة إسكندر المقدوني . وبعد موته واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة وانضوت تحت سلطة رومة فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصراً لرومة وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 مسيحية ، وجمع شتات المملكة فجعل للمملكة عاصمتين عاصمة غربية هي رومة وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية ، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق رومة . وبعد موته سنة 337 قُسمت المملكة بين أولاده ، وكان القسم الشرقي الذي هو بلاد الروم وعاصمته القسطنطينية لابنه قسطنطينيوس ، فمنذ ذلك الحين صارت مملكة القسطنطينية هي مملكة الروم وبقيت مملكة رومة مملكة الرومان .

وزاد انفصال المملكتين في سنة 395 حين قسم طيودسيوس بلدان السلطنة الرومانية بين ولديه فجعلها قسمين مملكة شرقية ومملكة غربية ، فاشتهرت المملكة الشرقية باسم بلاد الروم وعاصمتها القسطنطينية . ويعرف الروم عند الإفرنج بالبيزنطيين نسبة إلى بيزنطة اسم مدينة يونانية قديمة واقعة على شاطىء البوسفور الذي هو قسم من موقع المدينة التي حدثت بعدها كما تقدم آنفاً . وقد صارت ذات تجارة عظيمة في القرن الخامس قبل المسيح وسُمِّي ميناءها بالقرن الذهبي . وفي أواخر القرن الرابع قبل المسيح خلعت طاعة أثينا . وفي أواسط القرن الرابع بعد المسيح جُعل قسطنطين سلطان مدينة القسطنطينية .

وهذا الغلَب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 مسيحية . وذلك أن خسرو بن هرمز ملكَ الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيْصر الروم ، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاداة بلاد العرب بين بُصرى وأذرعات . وذلك هو المراد في هذه الآية { في أدْنَى الأرْض } أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب .

فالتعريف في { الأرْض } للعهد ، أي أرض الروم المتحدث عنهم ، أو اللام عوض عن المضاف إليه ، أي في أدنى أرضهم ، أو أدنى أرض الله . وحذف متعلق { أدنى } لظهور أن تقديره : من أرضكم ، أي أقرب بلاد الروم من أرض العرب ، فإن بلاد الشام تابعة يومئذ للروم وهي أقرب مملكة للروم من بلاد العرب . وكانت هذه الهزيمة هزيمة كبرى للروم .

وقوله { وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } إخبار بوعد معطوف على الإخبار الذي قبله ، وضمائر الجمع عائدة إلى الروم .

و { غَلَبِهم } مصدر مضاف إلى مفعوله . وحذف مفعول { سيغلبون } للعلم بأن تقديره : سيغلبون الذين غلبوهم ، أي الفرس إذ لا يتوهم أن المراد سيغلبون قوماً آخرين لأن غلبهم على قوم آخرين وإن كان يرفع من شأنهم ويدفع عنهم معرة غلب الفرس إياهم ، لكن القصة تبين المراد ولأن تمام المنة على المسلمين بأن يغلب الروم الفرسَ الذين ابتهج المشركون بغلبهم وشمتوا لأجله بالمسلمين كما تقدم .

وفائدة ذكر { من بعد غلبهم } التنبيه على عظم تلك الهزيمة عليهم ، وأنها بحيث لا يُظن نصر لهم بعدَها ، فابتهج بذلك المشركون ؛ فالوعد بأنهم سيغلبون بعد ذلك الانهزام في أمد غير طويل تحدَ تحدَّى به القرآن المشركين ، ودليل على أن الله قدر لهم الغلب على الفرس تقديراً خارقاً للعادة معجزة لنبيئه صلى الله عليه وسلم وكرامة للمسلمين .