ربما قيل : لعله يكثر مدعو الإيمان فهل يقبل من كل أحد ادعى [ ص 601 ] أنه مؤمن ذلك ؟ أم لا بد لذلك من دليل ؟ وهو الحق فلذلك بين تعالى صفة المؤمنين فقال : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ }فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة ، من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها ، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله وتدبر ما يقول المصلي ويفعله .
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } المفروضة لمستحقيها . { وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أي : قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل . ويقينهم بالآخرة يقتضي كمال سعيهم لها ، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل خير .
ثم وصف - سبحانه - هؤلاء المؤمنين بثلاث صفات جامعة بين خيرى الدنيا والآخرة فقال :
{ الذين يُقِيمُونَ الصلاة } أى : يؤدونها فى أوقاتها المقدرة لها ، مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها .
{ وَيُؤْتُونَ الزكاة } التى كلفهم الله - تعالى - بإيتائها ، بإخلاص وطيب نفس .
{ وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } والآخرة تأنيث الآخر . والمراد بها الدار الآخرة ، وسميت بذلك لأنها تأتى بعد الدنيا التى هى الدار الأولى .
وقوله : { يُوقِنُونَ } من الإيقان . وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بحيث لا يطرأ عليه شك ، أو تحون حوله شبهة . يقال : يقن الماء ، إذا سكن وظهر ما تحته .
ويقال : يَقِنْت من هذا الشىء يقَناً ، وأيقنت ، وتيقنت ، واستيقنت ، اعتقدت اعتقاداً جازماً من وجوده أو صحته .
أى : وهم بالدار الآخرة وما فيها من حساب وعقاب ، يوقنون إيقاناً قطعيًّا ، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة ، والأوهام الباطلة .
قال الجمل : ولما كان إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مما يتكرر ويتجدد فى أوقاتهما ، أتى بهما فعلين ، ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه ، أتى به جملة اسمية .
وجعل خبرها مضارعاً ، للدلالة على أن إيقانهم يستمر على سبيل التجدد " .
{ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لِمَنْ آمن به واتبعه وصدقه ، وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة المفروضة ، وآمن{[21958]} بالدار الآخرة والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال ، خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : يكذبون بها ، ويستبعدون وقوعها { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي : حَسَّنَّا لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غَيهم فهم يَتيهون في ضلالهم . وكان هذا جزاء على ما كذبوا به من الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] ، { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ } أي : في الدنيا والآخرة ، { وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } أي : ليس يخسر أنفسهم وأموالهم سواهم من أهل المحشر .
وقوله : الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ يقول : هو هدى وبشرى لمن آمن بها ، وأقام الصلاة المفروضة بحدودها . وقوله : وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ يقول : ويؤدّون الزكاة المفروضة . وقيل : معناه : ويطهرون أجسادهم من دنس المعاصي . وقد بيّنا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع وَهُمْ بالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يقول : وهم مع إقامتهم الصلاة ، وإيتائهم الزكاة الواجبة ، بالمعاد إلى الله بعد الممات يوقنون ، فيذلون في طاعة الله ، رجاء جزيل ثوابه ، وخوف عظيم عقابه ، وليسوا كالذين يكذّبون بالبعث ، ولا يبالون ، أحسنوا أم أساءوا ، وأطاعوا أم عصوا ، لأنهم إن أحسنوا لم يرجوا ثوابا ، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا .
{ الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة . { وهم بالآخرة هم يوقنون } من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف ، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه ، أو جملة اعتراضية كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة ، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص .
وصف المؤمنين بالموصول لتمييزهم عن غيرهم لأنهم عُرفوا يومئذ بإقامة الصلاة وإعطاء الصدقات للفقراء والمساكين ، ألا ترى أن الله عرّف الكفار بقوله { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة } [ فصلت : 6 ، 7 ] ، ولأن في الصلة إيماء إلى وجه بناء الإخبار عنهم بأنهم على هدى من ربّهم ومفلحون .
و { الزكاة } : الصدقة لأنها تزكي النفس أو تزكي المال ، أي تزيده بركة . والمراد بالزكاة هنا الصدقة مطلقاً أو صدقة واجبة كانت على المسلمين ، وهي مواساة بعضهم بعضاً كما دل عليه قوله في صفة المشركين { بل لا تكرمون اليتيمَ ولا تحضّون على طعام المسكين } [ الفجر : 17 ، 18 ] . وأما الزكاة المقدرة بالنُّصُب والمقادير الواجبة على أموال الأغنياء فإنها فرضت بعد الهجرة فليست مراداً هنا لأن هذه السورة مكية .
وجملة : { وهم بالأخرة هم يوقنون } عطف على الصلة وليست من الصلة ، ولذلك خولف بين أسلوبها وأسلوب الصلة فأتي له بجملة اسمية اهتماماً بمضمونها لأنه باعث على فعل الخيرات ، على أن ضمير { هم } الثاني يجوز أن يعتبر ضمير فصل دالاً على القصر ، أي ما يوقن بالآخرة إلا هؤلاء .
والقصْر إضافي بالنسبة إلى مجاوريهم من المشركين ، وإلا فإن أهل الكتاب يوقنون بالآخرة ، إلا أنهم غير مقصود حالهم للمخاطبين من الفريقين . وتقديم { بالأخرة } للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {الذين يقيمون الصلاة} يعني: يتمون الصلاة المكتوبة {ويؤتون الزكاة} يعني: ويعطون الزكاة المفروضة {وهم بالآخرة} يعني: بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال {هم يوقنون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ" يقول: هو هدى وبشرى لمن آمن بها، وأقام الصلاة المفروضة بحدودها.
وقوله: "وَيُؤْتُونَ الزّكاةَ "يقول: ويؤدّون الزكاة المفروضة. وقيل: معناه: ويطهرون أجسادهم من دنس المعاصي...
"وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" يقول: وهم مع إقامتهم الصلاة، وإيتائهم الزكاة الواجبة، بالمعاد إلى الله بعد الممات يوقنون، فيذلون في طاعة الله، رجاء جزيل ثوابه، وخوف عظيم عقابه، وليسوا كالذين يكذّبون بالبعث، ولا يبالون، أحسنوا أم أساءوا، وأطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لم يرجوا ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: هم الموقنون بالآخرة، وهو الوجه. ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرّر فيها المبتدأ الذي هو {وَهُمْ} حتى صار معناها: وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأنّ خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وصف تعالى المؤمنين بالأوصاف الخليقة بهم، وإقامة الصلاة إدامتها وأداؤها على وجهها، و {الزكاة} هنا يحتمل أن -تكون غير المفروضة لأن السورة مكية قديمة، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير، وقيل {الزكاة} هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق، وتكرار الضمير في قوله {وهم بالآخرة هم يوقنون} للتأكيد.
{الذين يقيمون الصلاة} فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك، وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها، وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة، وإقامتها وضعها في حقها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن لِمَنْ آمن به واتبعه وصدقه، وعمل بما فيه، وأقام الصلاة المكتوبة، وآتى الزكاة المفروضة، وآمن بالدار الآخرة والبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال، خيرها وشرها، والجنة والنار، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان وصف الإيمان خفياً، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال: {الذين يقيمون الصلاة} أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق.
ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال: {ويؤتون الزكاة} أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق.
ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك ولغيره من سائر الطاعات، ذكره معظماً لتأكيده، فقال معلماً بجعله حالاً إلا أنه شرط لما قبله: {وهم} أي والحال أنهم.
ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب الأعظم للسعادة وهو محط للحكمة، عبر فيه بما يقتضي الاختصاص، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به، فقال: {بالآخرة هم} أي المختصون بأنهم {يوقنون} أي يوجدون الإيقان حق الإيجاد ويجددونه في كل حين بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة، والإحجام عن المعصية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
بين تعالى صفة المؤمنين فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} فرضها ونفلها فيأتون بأفعالها الظاهرة، من أركانها وشروطها وواجباتها بل ومستحباتها، وأفعالها الباطنة وهو الخشوع الذي روحها ولبها باستحضار قرب الله وتدبر ما يقول المصلي ويفعله. {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} المفروضة لمستحقيها. {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أي: قد بلغ معهم الإيمان إلى أن وصل إلى درجة اليقين وهو العلم التام الواصل إلى القلب الداعي إلى العمل. ويقينهم بالآخرة يقتضي كمال سعيهم لها، وحذرهم من أسباب العذاب وموجبات العقاب وهذا أصل كل خير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصف المؤمنين بالموصول لتمييزهم عن غيرهم لأنهم عُرفوا يومئذ بإقامة الصلاة وإعطاء الصدقات للفقراء والمساكين، ألا ترى أن الله عرّف الكفار بقوله {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة} [فصلت: 6، 7]، ولأن في الصلة إيماء إلى وجه بناء الإخبار عنهم بأنهم على هدى من ربّهم ومفلحون.
و {الزكاة}: الصدقة لأنها تزكي النفس أو تزكي المال، أي تزيده بركة. والمراد بالزكاة هنا الصدقة مطلقاً أو صدقة واجبة كانت على المسلمين، وهي مواساة بعضهم بعضاً كما دل عليه قوله في صفة المشركين {بل لا تكرمون اليتيمَ ولا تحضّون على طعام المسكين} [الفجر: 17، 18]. وأما الزكاة المقدرة بالنُّصُب والمقادير الواجبة على أموال الأغنياء فإنها فرضت بعد الهجرة فليست مراداً هنا لأن هذه السورة مكية.
وجملة: {وهم بالأخرة هم يوقنون} عطف على الصلة وليست من الصلة، ولذلك خولف بين أسلوبها وأسلوب الصلة فأتي له بجملة اسمية اهتماماً بمضمونها لأنه باعث على فعل الخيرات، على أن ضمير {هم} الثاني يجوز أن يعتبر ضمير فصل دالاً على القصر، أي ما يوقن بالآخرة إلا هؤلاء.
والقصْر إضافي بالنسبة إلى مجاوريهم من المشركين، وإلا فإن أهل الكتاب يوقنون بالآخرة، إلا أنهم غير مقصود حالهم للمخاطبين من الفريقين. وتقديم {بالأخرة} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بها.
ثم يقول سبحانه {وهم بالآخرة هم يوقنون} فالآية جمعت أمر المؤمن كله، بداية من العقيدة والإيمان بالله، ثم الصلاة، فالزكاة وهما المطلبان العمليان بين إيمانين: الإيمان الأول بالله، والآخر أن يؤمن بالآخرة وبالجزاء والمرجع والمصير. وقوله {يوقنون} الإيقان: الحكم بثبات الشيء بدون توهم شك.