اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (3)

قوله : { الذين يُقيمُونَ الصلاة } يجوز أن يكون مجرور المحل ، نعتاً للمؤمنين ، أو بدلاً أو بياناً ، أو منصوبة عل المدح ، أو مرفوعة على تقدير مبتدأ ، أي : هم الذين ، والمراد بها : الصلوات الخمس ، وكذا القول في الزكاة ، فإنها هي الواجبة ، لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك . وإقامة الصلاة أن يؤديها بشرائطها ، والزكاة بوضعها في مواضعها{[38174]} .

قوله : { وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } «هم » الثاني تكرير للأول على سبيل التوكيد اللفظي ، وفهم الزمخشري منه الحصر ، أي : لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء ، المتصفون بهذه الصفات . ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية ، وكرر فيها المبتدأ الذي هو «هم » حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق{[38175]} .

و «بالآخِرَةِ » متعلق ب «يوقنون » ، ولا يضر الفصل بينهما بالتوكيد .

وهذه الجملة يحتمل أن تكون معطوفة على الصلة ، داخلة في حيز الموصول ، وحينئذ يكون قد غاير بين الصِّلتين لمعنى ، وهو أنه لما كان إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة مما يتكرَّر ويتجدَّد بالصلتين جملة فعلية ، فقال : «يُقِيمُونَ » ، وَ «يُؤْتُونَ » .

ولما كان الإيقان بالآخرة أمراً ثابتاً مطلوباً دوامه ، أتى بالصلة جملة اسمية ، مكرراً فيها المسند إليه ، مقدماً الموقن به ، الدال على الاختصاص ، ليدل على الثبات والاستقرار ، وجاء بخبر المبتدأ في هذه الجملة فعلاً مضارعاً ، دلالة على أن ذلك متجدد كل وقت ، غير منقطع{[38176]} . ويحتمل أن تكون مستأنفة غير داخلة في حيز الموصول{[38177]} . قال الزمخشري : ويحتمل أن تتم الصلة عنده ، أي : عند قوله : «وَهُمْ » ، قال : وتكون الجملة اعتراضية{[38178]} .

يريد أن الصلة تمت عند الزكاة ، فيجوز فيه{[38179]} ذلك ، وإلا فكيف يصح - إذا أخذنا بظاهر كلامه - أن الصلة تمت عند قوله{[38180]} : «وَهُمْ »{[38181]} وتسمية هذا اعتراضاً : يعني من حيث المعنى وسياق الكلام ، وإلا فالاعتراض في الاصطلاح : إنما يكون بين متلازمين من مبتدأ أو خبر ، وشرط وجزاء ، وقسم وجوابه ، وتابع ومتبوع ، وصلة وموصول ، وليس هنا شيء من ذلك .

فإن قيل : إن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لا بد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة ، فما وجه ذكره مرة أخرى ؟ .

فالجواب من وجهين :

الأول{[38182]} : أن الذي يستفاد منه طرق للنجاة هو معرفة المبدأ ، ومعرفة المعاد ، والعمل الصالح ، وأشرفه الطاعة بالنفس والطاعة بالمال ، فقوله : «لِلْمُؤْمِنِينَ » ، أي{[38183]} : الذين يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وهو إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله{[38184]} : ( { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } ، إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال ، وقوله : { وَهُم ){[38185]} بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } إشارة إلى علم المعاد ، فكأنه تعالى جعل معرفة المبدأ طرفاً أولاً ، ومعرفة المعاد طرفاً أخيراً ، وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطاً{[38186]} بينهما .

الثاني : أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة منهم من هو جازم بالحشر والنشر ، ومنهم من يكون شاكاً فيه ، إلا أنه يأتي بهذه الطاعة احتياطاً ، فيقول : إن كنت مصيباً فيها فقد فزت بالسعادة ، وإن كنت مخطئاً فيها{[38187]} لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة ، فمن أتى بالصلاة والزكاة على هذا الوجه ، لم يكن في الحقيقة مهتدياً بالقرآن ، ( وأما من كان جازماً بالآخرة كان مهدياً به ){[38188]} . فلهذا ذكر هذا القيد{[38189]} .


[38174]:انظر الفخر الرازي 24/178.
[38175]:انظر الكشاف 3/132.
[38176]:انظر البحر المحيط 7/532.
[38177]:المرجع السابق.
[38178]:الكشاف 3/132.
[38179]:في النسختين: في. والصواب ما أثبته.
[38180]:عند قوله: سقط من ب.
[38181]:اعترض أبو حيان على الزمخشري تسميته مثل هذا اعتراضا، ووجه ابن عادل ذلك بأنه إنما يعني الاعتراض من ناحية المعنى. انظر البحر المحيط 7/53.
[38182]:الأول: سقط من ب.
[38183]:أي: سقط من ب.
[38184]:في ب: قوله.
[38185]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38186]:في ب: متوسطة.
[38187]:فيها: سقط من ب.
[38188]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[38189]:انظر الفخر الرازي 24/178.