مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم بِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ} (3)

أما قوله : { الذين يقيمون الصلاة } فالأقرب أنها الصلوات الخمس لأن التعريف بالألف واللام يقتضي ذلك ، وإقامة الصلاة أن يؤتى بها بشرائطها ، وكذا القول في الزكاة فإنها هي الواجبة ، وإقامتها وضعها في حقها .

أما قوله : { وهم بالآخرة هم يوقنون } ففيه سؤال وهو : أن المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة لابد وأن يكونوا متيقنين بالآخرة ، فما الوجه في ذكره مرة أخرى ؟ جوابه من وجهين : الأول : أن يكون من جملة صلة الموصول ، ثم فيه وجهان : الأول : أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخبر لأجل العمل به ، وأما عرفان الحق فأقسام كثيرة لكن الذي يستفاد منه طريق النجاة معرفة المبدأ ، ومعرفة المعاد ، وأما الخير الذي يعمل به فأقسام كثيرة وأشرفها قسمان : الطاعة بالنفس والطاعة بالمال فقوله : { للمؤمنين } إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله : { يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } إشارة إلى الطاعة بالنفس والمال ، وقوله : { وهم بالآخرة هم يوقنون } إشارة إلى علم المعاد فكأنه سبحانه وتعالى جعل معرفة المبدأ طرفا أولا ، ومعرفة المعاد طرفا أخيرا وجعل الطاعة بالنفس والمال متوسطا بينهما . الثاني : أن المؤمنين الذي يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ، منهم من هو جازم بالحشر والنشر ، ومنهم من يكون شاكا فيه إلا أنه يأتي بهذه الطاعات للاحتياط ، فيقول إن كنت مصيبا فيها فقد فزت بالسعادة ، وإن كنت مخطئا فيها لم يفتني إلا خيرات قليلة في هذه المدة اليسيرة ، فمن يأتي بالصلاة والزكاة على هذا الوجه لم يكن في الحقيقة مهتديا بالقرآن ، أما من كان حازما بالآخرة كان مهتديا به ، فلهذا السبب ذكر هذا القيد . الثاني : أن يجعل قوله : { وهم بالآخرة هم يوقنون } جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وهذا هو الأقرب ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو { هم } حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق .