{ و } ليس عملكم قاصر في الدنيا من أجل الآيات البينات ، بل { سَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من أنواع العقوبات ؟ وكيف أحل الله بهم العقوبات ، حين كذبوا بالآيات البينات ، وضربنا لكم الأمثال الواضحة التي لا تدع أدنى شك في القلب إلا أزالته ، فلم تنفع فيكم تلك الآيات بل أعرضتم ودمتم على باطلكم حتى صار ما صار ، ووصلتم إلى هذا اليوم الذي لا ينفع فيه اعتذار من اعتذر بباطل .
وقوله - سبحانه - : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ . . . } معطوف على { أقسمتم . . } .
والمراد بالسكنى : الحلول فى أماكن الظالمين لوقت يكفى للاتعاظ والاعتبار وكفار قريش كانوا يمرون قوم ثمود فى رحلتهم إلى الشام ، وكانوا يحطون رحالهم هناك ، كما كانوا يمرون على ديار قوم عاد فى رحلتهم إلى اليمن .
والمعنى : لقد أقسمتم - أيها الضالون - بأنكم مالكم من انتقال من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، وحللتم فى مساكن القوم الظالمين .
{ وتبين لكم } عن طريق المشاهدة وتواتر الأخبار .
{ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } من الإِهلاك والتدمير بسبب كفرهم وفسوقهم .
{ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } بما فعلوه وبما فعلناه بهم ، عن طريق كتابنا ، وعلى لسان رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وكان من الواجب عليكم بعد كل ذلك أن تعتبروا وتتعظوا وتثوبوا إلى رشدكم ، وتدخلوا فى الإِسلام ، ولكنكم كنتم قوما فاسقين ، سائرين على نهج هؤلاء المهلكين فى الكفر والفجور ، فاليوم ذوقوا العذا بسبب جحودكم للحق فى الدنيا .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : أى : قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم .
{ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ } أي : قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما أوقعنا بهم مزدجر لكم{[15994]} { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [ القمر : 5 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسََكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ } .
يقول تعالى ذكره : وسكنتم في الدنيا في مساكن الذين كفروا بالله ، فظلموا بذلك أنفسهم من الأمم التي كانت قبلكم . وتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ يقول : وعلمتم كيف أهلكناهم حين عتوا على ربهم وتمادوا في طغيانهم وكفرهم . وَضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ يقول : ومثّلنا لكم فيما كنتم عليه من الشرك بالله مقيمين الأشباه ، فلم تنيبوا ولم تتوبوا من كفركم ، فالاَن تسألون التأخير للتوبة حين نزل بكم ما قد نزل بكم من العذاب ، إن ذلك لغير كائن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ يقول : سكن الناس في مساكن قوم نوح وعاد وثمود ، وقرون بين ذلك كثيرة ممن هلك من الأمم . وتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ قد والله بعث رسله ، وأنزل كتبه ، ضرب لكم الأمثال ، فلا يصم فيها إلاّ أصمّ ، ولا يخيب فيها إلاّ الخائب ، فاعقلوا عن الله أمره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ وَتَبَيّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ قال : سكنوا في قراهم مدين والحجر والقرى التي عذّب الله أهلها ، وتبين لكم كيف فعل الله بهم ، وضرب لهم الأمثال .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الأمْثالَ قال : الأشباه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
{ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي كعاد وثمود ، وأصل سكن أن يعدى بفي كقرّ وغني وأقام ، وقد يستعمل بمعنى التبوّء فيجري مجراه كقولك سكنت الدار . وتبيّن لكم كيف فعلنا بهم } بما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم وما تواتر عندكم من أخبارهم . { وضربنا لكم الأمثال } من أحوالهم أي بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب ، أو صفات ما فعلوا وفعل بهم التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة .
كذلك الخطاب في قوله : { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } فإنه يعم جميع أمم الشرك عدا الأمة الأولى منهم . وهذا من تخصيص العموم بالعقل إذ لا بد أن تكون الأمة الأولى من أهل الشرك لم تسكن في مساكن مشركين .
والمراد بالسكنى : الحلول ، ولذلك عُدّي بحرف الظرفية خلافاً لأصل فعله المتعدي بنفسه . وكان العرب يمرون على ديار ثمود في رحلتهم إلى الشام ويحطون الرحال هنالك ، ويمرون على ديار عاد في رحلتهم إلى اليمن .
وتبيّنُ ما فعل الله بهم من العقاب حاصل من مشاهدة آثار العذاب من خسف وفناء استئصال .
وضَرب الأمثال بأقوال المواعظ على ألسنة الرسل عليهم السلام ، ووصف الأحوال الخفية .
وقد جمع لهم في إقامة الحجة بين دلائل الآثار والمشاهدة ودلائل الموعظة . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.