فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها ، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها ، فلهذا قالت لها الملائكة : { يا مريم اقنتي لربك }
{ اقنتي لربك } القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع ، { واسجدي واركعي مع الراكعين } خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله ، ففعلت مريم ، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة .
ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله - تعالى - ومن المداومة على طاعته شكراً له فقال - تعالى - :
{ يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } .
القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها ، مع استشعار الخشوع والخضوع لله رب العالمين .
أى : قالت الملائكة أيضاً لمريم : يا مريم أخلصى لله وحده وداومى عليها ، وأكثرى من السجود لله ومن الركوع مع الراكعين ، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه - عز وجل - .
فالآية الكريمة دعوة قوية من الله - تعالى - لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة .
قال صاحب الكشاف : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها { واركعي مَعَ الراكعين } بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة ، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكونى معهم في عدادهم ولا تكونى في عداد غيرهم .
فأنت ترى فى هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول ، فلقد أخبر - سبحانه - باصطفائها صغيرة وكبيرة ، وبطهرها من كل سوء ، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى ، وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من خوارق ، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم ، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هى بريئة منه ، ثم بعد ذلك يأمرها - سبحانه - بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع لله رب العالمين .
وبذلك يتبين لكل ذى عقل سليم أن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق ، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى - عليه السلام - أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله
[ تعالى ]{[5016]} بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع{[5017]} كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }{[5018]} [ البقرة : 116 ] .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ " . ورواه ابن جرير من حديث{[5019]} ابن لهيعة ، عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة{[5020]}
وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع{[5021]} في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم .
وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها{[5022]} {[5023]} .
وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكَ}: أخلصي الطاعة لربك وحده. فقال بعضهم: معنى «اقنتي»: أطيلي الركود. وقال آخرون: معناه: أخلصي لربك... أطيعي ربك: اعبدي ربك.
وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالأدلة الدالة على صحته، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية.
فتأويل الآية إذا: يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا، واخشعي لطاعته وعبادته، مع من خشع له من خلقه، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتّطهير من الأدناس والتفضيل على نساء عالم دهرك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الأمر بالركوع {مع الراكعين}، وهو الصلاة بجماعة، ففيه الأمر بالصلاة مع الجماعة على ما هو علينا،...، لأنه قال: {واركعي مع الراكعين... فإن قيل: كيف أمرت بالركوع مع الراكعين؟ قيل: كانوا، والله أعلم، ذوي قرابة منها ورحم. ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمها وإمساكها حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه على أنه الأحق بذلك؟ دل أن بينهم وبينها رحما وقرابة. ويحتمل {مع الراكعين}: أي ممن يركع، ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع، والله أعلم كيف كان الأمر كذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لازمي بساط العبادة، وداومي على الطاعة، ولا تُقَصِّرِي في استدامة الخدمة، فكما أفردكِ الحقُّ بمقامك، كوني في عبادته أوحد زمانك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود؛ لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها؛ ثم قيل لها {واركعي مَعَ الراكعين} بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة؛ أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {اقنتي}... أن يكون معناه، أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله: {واسجدي واركعي}... فالقول عندي في ذلك، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى: وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فيمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له أطل قيامك، ثم أمرت -بعد -بالصلاة في الجماعة، فقيل لها، {واركعي مع الراكعين} وقصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يرد بالآية السجود والركوع، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم...
قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي}... وبالجملة فلما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكرا لتلك النعم السنية،... لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟. والجواب من وجوه: الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب. الثاني: أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدا قال عليه الصلاة والسلام: « أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد» فلما كان السجود مختصا بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات...
{واسجدي واركعي}... يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما،... أن الصلاة تسمى سجودا كما قيل في قوله {وأدبار السجود} [ق: 40] وفي الحديث « إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» وأيضا المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضا أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز...
إذا ثبت هذا فنقول قوله {يا مريم اقنتي}: يا مريم قومي، وقوله {واسجدي}: أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال: {واركعي مع الراكعين} إما أن يكون أمرا لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله {واسجدي} أمرا بالصلاة حال الانفراد، وقوله {واركعي مع الراكعين} أمرا بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله {واسجدي} أمرا ظاهرا بالصلاة، وقوله {واركعي مع الراكعين} أمرا بالخضوع والخشوع بالقلب...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
انتبه لمعنى الآية من قوله {اركعي مع الراكعين} ولم يقل: «اسجدي مع الساجدين»، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثم قال لها {اركعي مع الراكعين} أي صلي مع المصلين في بيت المقدس،...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يا مريم اقنتي لربك} أي الزمي طاعته مع الخضوع له: {واسجدي مع الراكعين} السجود التطامن والتذلل، والركوع والانحناء ويستعمل في لازمه وسببه وهو التواضع والخشوع في العبادة أو غيرها. وركوعها مع الراكعين عبارة عن صلاتها مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابه كما تقدم. وقد أطلق الركوع والسجود في صلاتنا على العمل المعلوم وهو استعمال للفظ في حقيقته ومجازه إذ الدين يطالبنا بالخشوع واستشعار التواضع في هذا الانحناء والتطامن ولم تكن صلاة اليهود كصلاتنا في أعمالها وصورتها ولكنهم طولبوا فيها بمثل ما طولبنا من الخشوع والتذلل لله تعالى..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين).. طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها. وقوله: {وما كنت لديهم} إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك، وإلاّ لقال: وما كنت تتلو كُتبهم مثل: « وما كنت تتلو من قبله من كتاب» أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخضوع التام المطلق، والاستسلام لله وإسلام الوجه لله الكريم، فمعنى نداء الملائكة دعوتها إلى ان تستمر على ما هي عليه من خضوع لله وإسلام وجهها له سبحانه، وتفويض أمورها له. وتكرار النداء لإشعارها بقربهم منها وهم رسل ربهم إليها، وفي ذلك بيان قربها منه سبحانه وتعالى. وفي تكرار النداء إشعار بأن طلبهم الاستمرار على القنوت وهو من قبيل شكر الله على هذه النعمة؛ فهذا الاصطفاء يوجب الشكر بالاستمرار على القنوت... وقوله تعالى: {واسجدي} هذا الأمر هنا يفسر بملازمة الطاعة والعبادة؛ فالسجود الخضوع المطلق لله تعالى؛ لأن أظهر مظاهر الخضوع ان يتضامن الشخص فيضع جبهته على الأرض خضوعا لله تعالى، وشعورا بعظمته وجلالته،وعلوه سبحانه،وانخفاض العبد امامه...
وقوله تعالى: {واركعي مع الراكعين}... وهذا فيه فائدة،وهي إثبات أن الصلاة مع الجماعة من تمام النسك والعبادة. فمريم البتول كانت ملازمة للمحراب منذ نشأتها في كفالة زكريا عليه السلام، وهي بهذا تشبه أن تكون بعزلة عن عوجاء الحياة وما فيها، وما عند الناس حتى في عباداتهم، فبينت لها الملائكة عن الله سبحانه ان تصلى جماعة مع الناس،فإن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد...