وقوله - سبحانه - : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ . . . } إخبار من الله - تعالى - لهم ، بما سيكون منهم ، حسب ما وقع فى علمه المحيط بكل شئ ، والذى ليس فيه إجبار أو قسر ، وإنما هو صفة انكشافية ، تنبئ عن مآلهم وأحوالهم .
قال أبو حيان : والفعل { قضى } يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله - تعالى - : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل . . } ولما ضُمِّن هنا معنى الإِيحاء أو الإِنفاذ تعدى بإلى أى : وأوحينا أو أنفذنا إلى بنى إسرائيل فى القضاء المحتوم المثبوت وعن ابن عباس : وأعلمناهم . . .
والمراد بالكتاب : التوراة ، وقيل اللوح المحفوظ .
واللام فى قوله { لتفسدن . . . } جواب قسم محذوف تقديره : والله لتفسدن .
ويجوز أن تكون جوابا لقوله - تعالى - : { وقضينا . . . } لأنه مضمن معنى القسم ، كما يقول القائل : قضى الله لأفعلن كذا ، فيجرى القضاء والقدر مجرى القسم . . .
والمقصود بالأرض : عمومها أو أرض الشام .
و { مرتين } منصوب على أنه مفعول مطلق لقوله : { لتفسدن } من غير لفظه ، والمراد لتفسدن إفسادتين وقوله - عز وجل - : { ولتعلن . . } من العلو وهو ضد السفل ، والمراد به هنا : التكبر والتجبر والبغى والعدوان .
والمعنى : وأخبرنا بنى إسرائيل فى كتابهم التوراة خبراً مؤكدا : وأوحينا إليهم بواسطة رسلنا ، بأن قلنا لهم : لتفسدن فى الأرض مرتين ، ولتستكبرون على الناس بغير حق ، استكبارا كبيرا ، يؤدى بكم إلى الخسران والدمار .
والتعبير عما يكون منهم من إفساد بالقضاء وأنه فى الكتاب ، يدل على ثبوته ، إذ أصل القضاء - كما يقول القرطبى - الإِحكام للشئ والفراغ منه .
وأكد إفسادهم واستعلاءهم بلام القسم ، للإِشعار بأنه مع ثبوته ووجوده فهو مصحوب بالتجبر والتكبر والبغى والعدوان .
وكان من مظاهر إفسادهم فى الأرض : تحريفهم للتوراة ، وتركهم العمل بما فيها من أحكام ، وقتلهم الأنبياء والمصلحين .
في ذلك الكتاب الذي آتاه الله لموسى ليكون هدى لبني إسرائيل ، أخبرهم بما قضاه عليهم من تدميرهم بسبب إفسادهم في الأرض . وتكرار هذا التدمير مرتين لتكرر أسبابه من أفعالهم . وأنذرهم بمثله كما عادوا إلى الإفساد في الأرض ، تصديقا لسنة الله الجارية التي لا تتخلف : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) . .
وهذا القضاء إخبار من الله تعالى بما سيكون منهم ، حسب ما وقع في علمه الإلهي من مآلهم ؛ لا أنه قضاء قهري عليهم ، تنشأ عنه أفعالهم . فالله سبحانه لا يقضي بالإفساد على أحد ( قل : إن الله لا يأمر بالفحشاء ) إنما يعلم الله ما سيكون علمه بما هو كائن . فما سيكون - بالقياس إلى علم الله - كائن ، وإن كان بالقياس إلى علم البشر لم يكن بعد ، ولم يكشف عنه الستار .
ولقد قضى الله لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ، وأنهم سيعلون في الأرض المقدسة ويسيطرون . وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للإفساد سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم تدميرا :
يقول تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي : تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون{[17231]} علوًا كبيرًا ، أي : يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] أي : تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مّفْعُولاً } .
وقد بيّنا فيما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل في كلّ مفروغ منه ، فتأويل الكلام في هذا الموضع : وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم ، وإخباره لهم لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ يقول : لتعصنّ الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفنّ أمره في بلاده مرّتين وَلَتَعْلُنّ عَلُوّا كَبِيرا يقول : ولتستكبرنّ على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائيِلَ قال : أعلمناهم .
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ يقُول : أعلمناهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا على بني إسرائيل في أمّ الكتاب ، وسابق علمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ قال : هو قضاء قضى عليهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سيعد ، عن قتادة ، قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ قضاء قضاه على القوم كما تسمعون .
وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتابِ قال : أخبرنا بني إسرائيل .
وكلّ هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله : وَقَضَيْنا وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القرّاء على قراءة قوله لَتُفْسِدُنّ بالتاء دون الياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا عليهم في الكتاب ، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء ، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم ، كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة . وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى ما :
حدثني به هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرّة ، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة لَتُفْسِدُنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ فكان أوّل الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يُدعى صحابين فبعث الجنود ، وكان أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا ، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدوّنا ما قُذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصرحين سمع ذلك منهم ، واشتدّ القيام على الجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله : فإذَا جاء وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عبادا لنَا أُولى بَأْسٍ شَدِيدٍ ، فَجاسُوا خِلالَ الدّيارِ وكانَ وَعْدا مَفْعولاً ثم إن بني إسرائيل تجهّزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله ثُمّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرّةَ عَلَيْهِمْ وأمْدَدْناكُمْ بأمْوَالٍ وَبَنِينَ ، وَجَعَلْناكُمْ أكْثَرَ نَفِيرا يقول : عددا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرّتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ، من قتل زكريا ، وسلّط عليهم بختنصر من قتل يحيى .
حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حُذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمّا اعْتَدَوْا وَعَلَوْا ، وَقَتَلُوا الأنْبِياءَ ، بَعَثَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فارِسَ بُخْتَنَصّر ، وكانَ اللّهُ مَلّكَهُ سَبْعَ مئَةِ سَنةٍ ، فَسارَ إلَيْهِمْ حتى دَخَلَ بَيْتَ المَقْدِسِ فَحاصَرَهَا وَفَتَحَها ، وَقَتَلَ عَلي دَمِ زَكَرِيّا سَبْعِينَ ألْفا ، ثُمّ سَبِي أهْلَها وَبَنِي الأَنْبِياءِ ، وَسَلَبَ حُليّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْها سَبْعِينَ ألْفا وَمِئَةَ ألْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِيَ حتى أوْرَدَهُ بابِلَ » قال حُذيفة : فقتل : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ؟ قال : «أجَلْ بَناهُ سُلَيْمانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَدُرّ وَياقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ ، وكانَ بَلاطُهُ بَلاطَةً مِنْ ذَهَبٍ وَبَلاطَةً مِنْ فَضّةٍ ، وعُمُدُهُ ذَهَبا ، أعْطاهُ اللّهُ ذلكَ ، وسَخّرَ لَهُ الشّياطينَ يَأْتُونَهُ بِهِذِهِ الأشْياءِ فِءَ طَرْفَةِ عَيْنٍ ، فَسارَ بُخْتَنَصّر بهذهِ الأشيْاءِ حتى نَزَلَ بِها بابِلَ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائيلَ فِي يَدَيِهِ مِئَةَ سَنَةٍ تُعَذّبُهُمُ المَجُوسُ وأبْناءُ المَجُوسِ ، فِيهِمُ الأنْبِياءُ وأبْناءُ الأنْبِياءِ ثُمّ إنّ اللّهَ رَحِمَهُمْ ، فأوْحَى إلى مَلِكِ مِنْ مُلُوكِ فارِسَ يُقالُ لُهُ كُورَسُ ، وكانَ مُؤْمِنا ، أنْ سِرْ بَقايَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى تَسْتَنْقِذَهُمْ ، فَسارَ كُورَسُ بِبَني إسْرَائِيل وحُليّ بَيْتِ المَقْدِسِ حتى رَدّهُ إلَيْهِ ، فَأقامَ بَنُوا إسْرَائِيلَ مُطِيعينَ لِلّهِ مِئَةَ سَنَةِ ، ثُمّ إنّهُمْ عادُوا فِي المَعاصِي ، فَسَلّطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ابْطِيانْحُوسَ ، فَغَزَا بأْبْناءِ مَنْ غَزَا مَعَ بُخْتَنَصّر ، فَغَزَا بَنِي إسْرَائِيلَ حتى أتاهُمْ بَيْتَ المَقْدِسِ ، فَسَبي أهْلَها ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ ، وَقالَ لَهُمْ : يا بَنِي إسْرَائِيلَ إنْ عُدْتُمْ فِي المَعاصِي عُدْنا عَلَيْكُمْ بالسّباءِ ، فَعادُوا فِي المَعاصِي ، فَسَيّرَ اللّهُ عَلَيْهِمُ السّباءَ الثّالِثَ مَلِكَ رُومِيّةَ ، يُقالُ لَهُ قاقِسُ بْنُ إسْبايُوس ، فَغَزَاهُمْ فِي البَرّ والبَحْرِ ، فَسَباهُمْ وَسَبَى حُلِيّ بَيْتِ المَقْدِسِ ، وأحْرَقَ بَيْتَ المَقْدِسِ بالنّيرانِ » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هذَا مِنْ صَنْعَةِ حُلِيّ بَيْتِ المَقْذِسِ ، ويَرُدّهُ المَهْدِيّ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ ، وَهُوَ ألْفُ سَفِينَةٍ وسَبْعُ مِئَةٍ سَفِينَةٍ ، يُرْسَى بِها عَلى يافا حتى تُنْقَلَ إلى بَيْتِ المَقْذِسِ ، وبِها يَجْمَعُ اللّهُ الأوّلِينَ والاَخِرِينَ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال : وَقَضَيْنا إلى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكتابِ لَتُفْسِدّنّ فِي الأرْضِ مَرّتَيْنِ ، وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا . . . إلى قوله : وَجَعَلْنا جَهَنّمَ للْكافرِينَ حَصِيرا فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا إليهم ، فكان مما أُنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدّم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم . فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يُدعي صديقة ، وكان الله إذا ملّك الملِك عليهم ، بعث نبيا يسدّده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها ، وينهونهم عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء أمُصيا ، وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى وشعياء الذي بشّر بعيسى ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ستّ مئة ألف راية ، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض في ساقه قرحة ، فجاء النبيّ شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريق ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستّ مئة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرَقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبيّ الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال له النبيّ عليه السلام : لم يأتني وحي أحدث إليّ في شأنك . فبيناهم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبيّ : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته . فأتى النبيّ شيعاء ملك بين إسرائيل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إليّ أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على مُلكك من أهل بيتك ، فإنك ميت فلما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل على القبلة ، فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرّع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظنّ صادق . اللهمّ ربّ الأرباب ، وإله الاَلهة ، قدّوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحُسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي سرّي وعلانيتي لك وإن الرحمن استجاب له ، وكان عبدا صالحا ، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخّر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوّه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فأتى شعياء النبيّ إلى ذلك الملك فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، وانقطع عنه الشرّ والحزن ، وخرّ ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي المُلك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعزّ من تشاء ، وتذلّ من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأوّل والاَخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرّين ، أنت الذي أحببت دعوتي ورحمت تضرّعي فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء إن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، ويصبح وقد برأ ، ففعل ذلك فشفي . وقال الملك لشعياء النبيّ : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا . قال : فقال الله لشعياء النبيّ : قل له : إني قد كفيتك عدوّك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلاّ سنحاريب وخمسة من كتابه فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوّك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يُوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خرّ ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر ، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ، ونحن وأنتم غافلون ؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلاّ قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله ربّ العزّة الذي كفاناكم بما شاء ، إن ربنا لم يُبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شرّ لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا ، وعذابا في الاَخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا ، ولتنذر من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمُك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته . ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا ، وكان يرزقهم في كلّ يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا ، فافعل ما أمرت فنقل بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبيّ أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلّغ النبيّ شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهّانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحى الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا ، وهي أمّة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنحاريب مما خوّفوا ، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة . ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا المُلك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء : قم في قومك أُوحِ على لسانك فلما قام النبيّ أنطق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقصّ شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصّهم بكرامته ، وفضّلهم على عباده ، وفضلهم بالكرامة ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يخبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة ، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين . إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الاَريّ الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فيها ، وكان لها ربّ حكيم قويّ ، فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قويّ ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فأحاط عليها جدارا ، وشيّد فيها قصرا ، وأنبط فيها نهرا ، وصف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمّة ، حفيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قيّمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة ، خربة مواتا لا عمران فيها . قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القَيّمَ نبِيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مَثلٌ ضربه الله لهم يتقرّبون إليّ بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدّعون أن يتقرّبوا بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوّقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخرّبون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأيّ حاجة لي إلى تشييد البيوت وليست أسكنها ، وأيّ حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها ، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على أن يفقّه قلوبنا لأفقهها ، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ، فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولّف بينها ، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم ، وأنا الذي صوّرتها يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا ، وتصدّقنا فلم تزكّ صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كلّ ذلك لا نسمع ، ولا يُستجاب لنا قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين ؟ ألأنّ ذات يدي قلت كيف ويداي مبسوطتان بالخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ألا وإن رحمتي وسعت كلّ شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن البخل يعتريني أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سُئل لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام ؟ وكيف أنوّر صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني ، وينتهك محارمي ؟ أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم ؟ وإنما أوجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ؟ وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين فلو رحموا المساكين ، وقرّبوا الضعفاء ، وأنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكلّ ذي حقّ حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لثبّت ألسنتهم وعقولهم . يقولون لمّا سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا ، وكلهم يستخفى بالذي يقول ويسرّ ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السموات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً ، لا بدّ أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من لم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أيّ زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة في الأُجراء ، وأن أحوّل الملك في الرعاء ، والعزّ في الأذلاء ، والقوّة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والاَجام في المفاوز ، والبردى في الغيطان ، والعلم في الجهلة ، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلى يد من أسنه ، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون فإني باعث لذلك نبيا أمّيا ، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالاً من ضالّين ، وليس بفظّ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا متزين بالفُحش ، ولا قوّال للخنا ، أسدده لكل جميل ، أهب له كلّ خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبرّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه والعدل والمعروف سيرته ، والحقّ شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملّته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلّة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفُرقة ، وأؤلّف به قلوبا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمما متفرّقة ، وأجعل أمته خير أمّة أُخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والحمد والمدحة ، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهلّلون ، ويقدّسون على رؤوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم . فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها .
قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السديّ ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرّة الأولى قتلهم زكريا نبيّ الله ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحلّ على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوّهم على ربهم . وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرّة الأولى ما وصف من قتلهم شعياء بن أمصيا نبيّ الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يُقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سُلّط على بني إسرائيل في المرّة الأولى بعد قتلهم شعياء . حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه .
وأما إفسادهم في الأرض المرّة الاَخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا . وقد اختلفوا في الذي سلّطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله .
وأما قوله : وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا فقد ذكرنا قول من قال : يعني به : استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره . وكان مجاهد يقول في ذلك ما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلَتَعْلُنّ عُلُوّا كَبِيرا قال : ولتعلنّ الناس علوّا كبيرا .
حدثنا الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : { وقضينا إلى بني إسرائيل } الآية ، قال الطبري : معنى { قضينا } فرغنا وحكي عن غيره أنه قال : { قضينا } هنا بمعنى أخبرنا ، وحكي عن آخرين أنهم قالوا { قضينا } معناه في أم الكتاب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه : وإنما يلبس في هذا المكان تعدية { قضينا } ب { إلى } ، وتلخيص المعنى عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى . فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمرين جميعاً في إيجاز ، جعل { قضينا } دالة على النفوذ في أم الكتاب ، وقرن بها دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل ، والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ ، ولهذا فسر ابن عباس مرة بأن قال { قضينا إلى بني إسرائيل } معناه أعلمناهم ، وقال مرة : معناه قضينا عليهم . و { الكتاب } هنا التوراة لأن القسم في قوله { لتفسدن } غير متوجه مع أن يجعل { الكتاب } هو اللوح المحفوظ ، وقرأ سعيد بن جبير وأبو العالية الرياحي «في الكتب » على الجمع ، قال أبو حاتم : قراءة الناس على الإفراد ، وقرأ الجمهور «لتُفسِدن » بضم التاء وكسر السين ، وقرأ عيسى الثقفي «لَتفسُدُن » بفتح التاء وضم السين والدال ، وقرأ ابن عباس ونصر بن عاصم وجابر بن زيد «لتُفسَدُن » بضم التاء وفتح السين وضم الدال . وقوله { ولتعلن } أي لتتجبرون عن طاعة الأمرين بطاعة الله وتطلبون في الأرض العلو والفساد وتظلمون من قدرتم على ظلمة ونحو هذا .
قال القاضي أبو محمد : ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرّة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحاً{[7471]} ، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله وقيل : كان بين «المرتين » آخر الأولى وأول الثانية مائتَا سنة وعشر سنين{[7472]} ملكاً مؤبداً بأنبياء وقيل سبعون سنة .
عطف على جملة { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] ، أي آتينا موسى الكتاب هُدى ، وبينا لبني إسرائيل في الكتاب ما يحل بهم من جراء مخالفة هدي التوراة إعلاماً لهذه الأمة بأن الله لم يدخر أولئك إرشاداً ونصحاً ، فالمناسبة ظاهرة .
والقضاء بمعنى الحكم وهو التقدير ، ومعنى كونه في الكتاب أن القضاء ذكر في الكتاب ، وتعدية قضينا بحرف ( إلى ) لتضمين قضينا معنى ( أبلغنا ) ، أي قضينا وأنهينا ، كقوله تعالى : { وقضينا إليه ذلك الأمر } في سورة [ الحجر : 66 ] . فيجوز أن يكون المراد ب ( الكتاب ) كتاب التوراة والتعريف للعهد لأنه ذكر الكتاب آنفاً ، ويوجد في مواضع ، منها ما هو قريب مما في هذه الآية لكن بإجمال ( انظر الإصحاج 26 والإصحاح 28 والإصحاح 30 ) ، فيكون العدول عن الإضمار إلى إظهار لفظ ( الكتاب ) لمجرد الاهتمام .
ويجوز أن يكون الكتاب بعض كتبهم الدينية . فتعريف ( الكتاب ) تعريف الجنس وليس تعريف العهد الذكري ، إذ ليس هو الكتابَ المذكور آنفاً في قوله : { وآتينا موسى الكتاب } [ الإسراء : 2 ] لأنه لما أظهر اسم الكتاب أشعر بأنه كتاب آخر من كتبهم ، وهو الأسفار المسماة بكتب الأنبياء : أشعياء ، وأرميا ، وحزقيال ، ودانيال ، وهي في الدرجة الثانية من التوراة . وكذلك كتاب النبي مَلاَخي .
والإفساد مرتين ذكر في كتاب أشعياء وكتاب أرمياء .
ففي كتاب أشعياء نذارات في الإصحاح الخامس والعاشر . وأولى المرتين مذكورة في كتاب أرمياء في الإصحاح الثاني والإصحاح الحادي والعشرين وغيرهما . وليس المراد بلفظ الكتاب كتاباً واحداً فإن المفرد المعرف بلام الجنس يراد به المتعدد . وعن ابن عباس الكتاب أكثر من الكتب . ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة وكتب الأنبياء ولذلك أيضاً وقع بالإظهار دون الإضمار .
وجملة { لتفسدن في الأرض مرتين } إلى قوله { حصيرا } مبيّنة لجملة { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } . وأيّا مّا كان فضمائر الخطاب في هذه الجملة مانعة من أن يكون المراد بالكتاب في قوله تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } اللوح المحفوظ أو كتاب الله ، أي علمه .
وهذه الآية تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائهم من أمتين عظيمتين : حوادث بينهم وبين البابليين ، وحوادث بينهم وبين الرومانيين . فانقسمت بهذا الاعتبار إلى نوعين : نوع منهما تنْدَرج فيه حوادثهم مع البابليين ، والنوع الآخر حوادثهم مع الرومانيين ، فعبر عن النوعين بمرتين لأن كل مرة منهما تحتوي على عدة ملاحم .
فالمرة الأولى هي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ بالأسر البابلي وهي غزوات ( بختنصر ) مَلِك بابل وأشور بلاَد أورشليم . والغزو الأول كان سنة 606 قبل المسيح ، أسَر جماعات كثيرة من اليهود ويسمى الأسر الأول . ثم غزاهم أيضاً غزواً يسمى الأسر الثاني ، وهو أعظم من الأول ، كان سنة 598 قبل المسيح ، وأسَرَ ملكَ يهوذا وجمعاً غفيراً من الإسرائيليين وأخذ الذهب الذي في هيكل سليمان وما فيه من الآنية النفيسة .
والأسر الثالث المُبير سنة 588 قبل المسيح غزاهم « بختنصر » وسبى كل شعب يهوذا ، وأحرق هيكل سليمان ، وبقيت أورشليم خراباً يباباً . ثم أعادوا تعميرها كما سيأتي عند قوله تعالى : { ثم رددنا لكم الكرة } [ الإسراء : 6 ] .
وأما المرة الثانية فهي سلسلة غزوات الرومانيين بلادَ أورشليم . وسيأتي بيانها عند قوله تعالى : { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 6 ] الآية .
وإسناد الإفساد إلى ضمير بني إسرائيل مفيد أنه إفساد من جمهورهم بحيث تعد الأمة كلُّها مُفسدة وإن كانت لا تخلو من صالحين .
والعلو في قوله : { ولتعلن علوا كبيراً } مجاز في الطغيان والعصيان كقوله : { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } [ الدخان : 31 ] وقوله : { ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين } [ النمل : 31 ] تشبيهاً للتكبر والطغيان بالعلو على الشيء لامتلاكه تشبيه معقول بمحسوس .