ولقد بين - سبحانه - بعد ذلك . أن تلك الأمم لم تعتبر بما أصابها من شدائد فقال : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } .
ولولا هنا للنفى ، أى أنهم ما خشعوا ولا تضرعوا وقت أن جاءهم بأسنا .
وقيل إنها للحث والتحضيض بمعنى هلا ، أى : فهلا تضرعوا تائبين إلينا وقت أن جاءهم بأسنا .
وقد اختار صاحب الكشاف أنها للنفى فقال : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } معناه : نفى التضرع ، كأنه قيل . فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا ولكنه جاء بلولا ليفيد أنه لم يكن لهم عذر فى ترك التضرع إلا عنادهم وقوسة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التى زينها الشيطان لهم " .
ثم بين - سبحانه - أن أمرين حالا بينهم وبين التوبة والتضرع عند نزول الشدائد بهم .
أما الأمر الأول : فهو قسوة قلوبهم ، وقد عبر - سبحانه - عن هذا الأمر الأول بقوله : { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أى : غلظت وجمدت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة .
وأما الأمر الثانى : فهو تزيين الشيطان لهم أعمالهم السيئة ، بأن يوحى إليهم بأن ما هم عليه من كفر وشرك وعصيان هو عين الصواب ، وأن ما أتاهم به أنبياؤهم ليس خيراً لأنه يتنافى مع ما كان عليه آباؤهم .
هذان هما الأمران اللذان حالا بينهم وبين التضرع إلى الله والتوبة إليه .
لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم ؛ وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم ، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة ، فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة . . ولكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا . لم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد :
( ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ) . .
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه ، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة ، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة . والشدة ابتلاء من الله للعبد ؛ فمن كان حيا أيقظته ، وفتحت مغاليق قلبه ، وردته إلى ربه ؛ وكانت رحمه له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه . . ومن كان ميتا حسبت عليه ، ولم تفده شيئا ، وإنما أسقطت عذرة وحجته ، وكانت عليه شقوة ، وكانت موظئة للعذاب !
قال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا{[10683]} { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : ما رقت ولا خشعت { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرّعُواْ وَلََكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } . .
وهذا أيضا من الكلام الذي فيه متروك استغني بدلالة الظاهر عن ذكر ما ترك ، وذلك أنه تعالى ذكره أخبر عن الأمم التي كذّبت رسلها أنه أخذهم بالبأساء والضرّاء ليتضرعوا ، ثم قال : فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ، ولم يخبر عما كان منهم من الفعل عند أخذه إياهم بالبأسأء والضرّاء .
ومعنى الكلام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرّاء لعلهم يتضرّعون فلم يتضرّعوا ، فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرّعوا . ومعنى : فَلَوْلاَ في هذا الموضع : فهلاّ ، والعرب إذ أوْلت «لولا » اسما مرفوعا جعلت ما بعدها خبرا وتلقتها بالأمر ، فقالت ، فلولا أخوك لزرتك ، ولولا أبوك لضربتك ، وإذا أوْلتها فعلاً ، أو لم تولها اسما ، جعلوها استفهاما ، فقالوا : لولا جئنا فنكرمك ، ولولا زرت أخاك فنزورك ، بمعنى هلاّ . كما قال تعالى : لَوْلا أخّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فأصّدّق وكذلك تفعل ب «لوما » مثل فعلها ب «لولا » .
فتأويل الكلام إذن : فهلا إذ جاء بأسنا هؤلاء الأمم المكذّبة رسلها الذين لم يتضرّعوا عند أخذناهم بالبأساء والضرّاء ، تضرّعوا فاستكانوا لربهم وخضعوا لطاعته ، فيصرف ربهم عنهم بأسه وهو عذابه وقد بينا معنى البأس في غير هذا الموضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ يقول : ولكن أقاموا على تكذيبهم رسلهم ، وأصروا على ذلك واستكبروا عن أمر ربهم ، استهانة بعقاب الله واستخفافا بعذابه وقساوة قلب منهم . وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ يقول : وحسن لهم الشيطان ما كانوا يعملون من الأعمال التي يكرهها الله ويسخطها منهم .
يجوز أن تجعل ( لولا ) هنا للتّمنّي على طريقة المجاز المرسل ، ويكون التّمنّي كناية عن الإخبار بمحبّة الله الأمر المتمنّى فيكون من بناء المجاز على المجاز ، فتكون هذه المحبّة هي ما عبّر عنه بالفرح في الحديث « الله أفرح بتوبة عبده » الحديث . وتقديم الظرف المضاف مع جملته على عامله في قوله { إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا } للاهتمام بمضمون جملته ، وأنّه زمن يحقّ أن يكون باعثاً على الإسراع بالتضرّع ممّا حصل فيه من البأس .
والبأس تقدّم عند قوله تعالى : { وحين البأس } في سورة [ البقرة : 177 ] . والمراد به هنا الشدّة على العدوّ وغلبته . ومجيء البأس : مجيء أثره ، فإنّ ما أصابهم من البأساء والضرّاء أثر من آثار قوّة قدرة الله تعالى وغلبه عليهم . والمجيء مستعار للحدوث والحصول بعد أن لم يكن تشبيهاً لحدوث الشيء بوصول القادم من مكان آخر بتنقّل الخطوات .
ولمّا دلّ التوبيخ أو التمنّي على انتفاء وقوع الشيء عطف عليه ب ( لَكِنْ ) عطفاً على معنى الكلام ، لأنّ التضرّع ينشأ عن لين القلب فكان نفيه المفاد بحرف التوبيخ ناشئاً عن ضدّ اللين وهو القساوة ، فعطف ب{ لكن } .
والمعنى : ولكن اعتراهم ما في خلقتهم من المكابرة وعدم الرجوع عن الباطل كأنّ قلوبهم لا تتأثّر فشبّهت بالشيء القاسي . والقسوة : الصلابة .
وقد وجد الشيطان من طباعهم عوناً على نفث مراده فيهم فحسّن لهم تلك القساوة وأغراهم بالاستمرار على آثامهم وأعمالهم . ومن هنا يظهر أنّ الضلال ينشأ عن استعداد الله في خلقة النفس .
والتزيين : جعل الشيء زَيْنا . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { زيّن للناس حبّ الشهوات } في سورة [ آل عمران : 14 ] .