ثم حكى - سبحانه - ما رد به على استفهام زكريا فقال : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .
وقوله : { كذلك } خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر كذلك .
قال الآلوسى : وذلك إشارة إلى قول زكريا - عليه السلام - وجملة { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } مفعول { قَالَ } الثانى وجملة " الأمر كذلك " مع جملة { قَالَ رَبُّكَ } إلخ مفعول { قَالَ } الأول . . . " .
والمعنى : قال الله - تعالى - مجيباً على استفهام زكريا ، الأمر كما ذكرت يا زكريا من كون امرأتك عاقرا ، وأنت قد بلغت من الكبر عتيا ، ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تنفيذ إرادتنا فى منحك هذا الغلام ، فإن قدرتنا لا يعجزها شىء ، ولا تخضع لما جرت به العادات .
وهذا الأمر وهو إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أى : يسير سهل .
ثم ذكر له - سبحانه - ما هو أعجب مما سأل عنه فقال : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .
أى : لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة ، فإنى أنا الله الذى أوجدتك من العدم ، ومن أوجدك من العدم ، فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور .
فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقى برهانى ، ما يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وما يزيد فى اطمئنان قلب زكريا - عليه السلام - .
هنا يأتيه الجواب عن سؤاله : أن هذا هين على الله سهل . ويذكره بمثل قريب في نفسه : في خلقته هو و إيجاده بعد أن لم يكن . وهو مثل لكل حي ، ولكل شيء في هذا الوجود :
( قال : كذلك قال ربك : هو علي هين . وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) .
وليس في الخلق هين وصعب على الله . ووسيلة الخلق للصغير والكبير ، وللحقير والجليل واحدة : كن . فيكون .
والله هو الذي جعل العاقر لا تلد . وجعل الشيخ الفاني لا ينسل ؛ وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم ، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل . وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء . وإن كان كل شيء هينا على القدرة : إعادة أو إنشاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبّكَ هُوَ عَلَيّ هَيّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً * قَالَ رَبّ اجْعَل لِيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلّمَ النّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : قال الله لزكريا مجيبا له قالَ كَذلكَ يقول : هكذا الأمر كما تقول من أنّ امرأتك عاقر ، وأنك قد بلغت من الكبر العتيّ ، ولكن ربك يقول : خلْق ما بشّرتك به من الغلام الذي ذكرت لك أن اسمه يحيى عليّ هين ، فهو إذن من قوله : قالَ رَبّكَ هُوَ عَليّ هَيّنٌ كناية عن الخلق .
وقوله : وَقَدْ خلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ ولَمْ تَك شَيْئا يقول تعالى ذكره : وليس خلق ما وعدتك أن أهبه لك من الغلام الذي ذكرت لك أمره منك مع كبر سنك ، وعقم زوجتك بأعجب من خلقك ، فإني قد خلقتك ، فأنشأتك بشرا سويا من قبل خلقي ما بشرتك بأني واهبه لك من الولد ، ولم تك شيئا ، فكذلك أخلق لك الولد الذي بشرتك به من زوجتك العاقر ، مع عِتيك ووهن عظامك ، واشتعال شيب رأسك .
وقوله { قال كذلك } قيل إن المعنى قال له الملك { كذلك } فليكن الوجود كما قيل لك { قال ربك } خلق الغلام { عليّ هين } ، أي غير بدع فكما { خلقتك من قبل } وأخرجتك من عدم الى وجود كذلك أفعل الآن ، وقال الطبري : معنى قوله { كذلك } أي الأمران اللذان ذكرت من المرأة العاقر والكبر هو { كذلك } ولكن { قال ربك } قال القاضي والمعنى عندي قال الملك { كذلك } أي على هذه الحال { قال ربك هو علي هين } . وقرأ الجمهور «وقد خلقتك » وقرأ حمزة الكسائي «وقد خلقناك » . وقوله { ولم تك شيئاً } أي موجوداً .
فصلت جملة { قَالَ كذلك } لأنها جرت على طريقة المحاورة . وهي جواب عن تعجبه . والمقصود منه إبطال التعجب الذي في قوله : { وكانَتِ امرأتي عاقِراً وقد بلغتُ مِن الكِبَر عُتِياً } [ مريم : 8 ] . فضمير { قَالَ } عائد إلى الرب من قوله { قَالَ رَبّ أنَّى يكونُ لي غُلامٌ } [ مريم : 8 ] .
والإشارة في قوله { كذلك } إلى قول زكرياء { وكانت امرأتي عاقِراً وقَد بلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عُتِيّاً } . والجار والمجرور مفعول لفعل { قَالَ رَبُّكَ } ، أي كذلك الحال من كبرك وعقر امرأتك قدّر ربُّك ، ففعلُ { قَالَ رَبُّكَ } مرادٌ به القول التكويني ، أي التقديري ، أي تعلّق الإرادة والقدرة . والمقصود من تقريره التمهيد لإبطال التعجب الدال عليه قوله { عَلَيَّ هَيِنٌ } ، فجملة { هُوَ عليَّ هَيِنٌ } استئناف بياني جواباً لسؤال ناشىء عن قوله { كَذَلِكَ } لأنّ تقرير منشأ التعجب يثير ترقب السامع أن يعرف ما يُبطل ذلك التعجب المقرّر ، وذلك كونه هيّناً في جانب قدرة الله تعالى العظيمة .
ويجوز أن يكون المشار إليه بقوله { كَذلِكَ } هو القول المأخوذ من { قَالَ رَبُّكَ } ، أي أن قولَ ربّك { هُوَ عليَّ هَيّنٌ } بلغ غاية الوضوح في بابه بحيث لا يبين بأكثر ما علمت ، فيكون جارياً على طريقة التشبيه كقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } وقد تقدم في سورة البقرة ( 143 ) . وعلى هذا الاحتمال فجملة { هُوَ عليَّ هَينٌ } تعليل لإبطال التعجب إبطالاً مستفاداً من قوله { كذلك قال ربّك } ، ويكون الانتقال من الغيبة في قوله { قَالَ ربّك } إلى التكلم في قوله { هُوَ عليَّ هَيّنٌ } التفاتاً . ومقتضى الظاهر : هو عليه هيّن .
والهيّن بتشديد الياء : السهل حصوله .
وجملة { وقَدْ خَلقتُكَ من قَبْلُ } على الاحتمالين هي في موضع الحال من ضمير الغيبة الذي في قوله { هُوَ على هَيِنٌ } ، أي إيجاد الغلام لك هيّن عليّ في حال كوني قد خلقتُك من قبل هذا الغلام ولم تكن موجوداً ، أي في حال كونه مماثلاً لخلقي إياك ، فكما لا عجب من خلق الولد في الأحوال المألوفة كذلك لا عجب من خلق الولد في الأحوال النادرة إذ هما إيجاد بعد عدم .
ومعنى { ولَمْ تَكُ شَيْئاً } : لم تكن موجوداً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.