اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٞ وَقَدۡ خَلَقۡتُكَ مِن قَبۡلُ وَلَمۡ تَكُ شَيۡـٔٗا} (9)

قوله : { كَذِلكَ } : في محلِّ هذه الكاف وجهان :

أحدهما : أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ كذلك ، ويكون الوقفُ على : " كَذَلِكَ " ، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى .

والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، فقدَّرهُ أبو البقاء{[21442]} ب " أفْعَلُ " مثل ما طلبتَ ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه ، فجعل ناصبه مقدَّراً ، وظاهره أنه مفعولٌ به .

وقال الزمخشريُّ{[21443]} : " أو نصب ب " قَالَ " و " ذَلِكَ " إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره " هُو عليَّ هيِّنٌ " ، ونحوه : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرأ{[21444]} الحسن " وهُوَ عليَّ هيِّنٌ " ، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمرُ كما قلت ، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ .

وجهٌ آخرُ : وهو أن يُشارَ ب " ذَلِكَ " إلى ما تقدَّم من وعد الله ، لا إلى قولِ زكريَّا ، و " قَالَ " محذوفٌ في كلتا القراءتين . يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ -أي : قال : هُوَ عليَّ هيِّنٌ ، قال : وهُوَ عليَّ هيِّنٌ ، وإن شئت لمْ تنوهِ ؛ لأنَّ الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووعدهُ وقوله الحقُّ .

وفي هذا الكلام قلقٌ ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ " قال " الثانية هي الناصبةُ للكاف .

وقوله : { وقَالَ محذوفٌ } يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند " قال ربُّك " ويبتدأ بقوله : { هُوَ عليَّ هيِّنٌ } . وقوله : { وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ } ، أي : لم تَنْوِ القول المقدَّر ؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك .

وظاهرُ كلام بعضهم : أنّ " قال " الأولى مسندة إلى ضمير الملك ، وقد صرّح بذلك ابن جرير ، وتبعه ابن عطية .

قال الطبريُّ : " ومعنى قوله { قال كذلكَ } أي : الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك ، ولكن قال ربُّك ، والمعنى عندي : قال الملكُ : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربُّك ، هو عليَّ هيِّنٌ " انتهى .

وقرأ الحسن البصري{[21445]} " عَلَيَّ " بكسر ياء المتكلم ؛ كقوله [ الطويل ]

3582 أ- عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ *** لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ{[21446]}

أنشدوه بالكسر . وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة " بمُصْرِخيِّ " [ إبراهيم : 22 ] .

قوله : { وقَدْ خلقْتُكَ } هذه الجملة مستأنفةٌ ، وقرأ الأخوان{[21447]} " خَلقْنَاكَ " أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ ، والباقون " خلقْتُك " بتاء المتكلِّم .

وقوله : { ولَمْ يَكُ شَيْئاً } جملةٌ حاليةٌ ، ومعنى نفي كونه شيئاً ، أي : شيئاً يعتدُّ به ؛ كقوله : [ البسيط ]

3582 ب- . . . *** إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا{[21448]}

وقالوا : عجبتُ من لا شيءٍ ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ .

فصل

قيل : إطلاق لفظ " الهَيِّن " في حق الله تعالى مجاز ؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء ، ولكن المراد ؛ أنه إذا أراد شيئاً كان .

ووجه الاستدلال بقوله تعالى { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } فنقول : إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار ، وأما الآن ، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات ، والقادر على خلق الذوات والصفات والآثار معا أولى أن يكون قادرا على تبديل الصفات ، وإذا أوجده عن عدم ، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد .

فصل

الجمهورُ على أنَّ قوله : { قال : كذلِكَ قال ربُّكَ } يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله { يا زكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } قول الله تعالى ، وقوله { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } قول الله تعالى ، وهذا بعيدٌ ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى ، فكيف يصحُّ إدراجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين ، والأولى أن يقال : قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى ؛ كما أن الملك العظيم ، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً ، فيقول العبد : من أين يحصلُ لي هذا ، فيقول : إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك ؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد ، فكذا ههنا .


[21442]:ينظر: الإملاء 2/111.
[21443]:الكشاف 2/502.
[21444]:ينظر: الكشاف 2/502.
[21445]:الإتحاف 2/234.
[21446]:تقدم.
[21447]:السبعة 408 النشر 2/317 التسيير 148.
[21448]:عجز بيت للمتنبي وصدره: وضاقـت الأرض حتى كان هاربهم ينظر: ديوانه (1/60)، وروح المعاني 16/70، والكشاف 2/504، والدر المصون 4/494.