ثم بين - سبحانه - الصفة الرابعة من صفاتهم فقال : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } .
أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين - أيضاً - أنهم أعفاء ممسكون لشهواتهم لا يستعملونها إلا مع زوجاتهم التى أحلها الله - تعالى - لهم ، أو مع ما ملكت أيمانهم من الإماء والسرارى ، وذلك لأن من شأن الأمة المؤمنة إيماناً حقاً ، أن تصان فيها الأعراض ، وأن يحافظ فيها على الأنساب ، وأن توضع فيها الشهوات فى مواضعها التى شرعها الله - تعالى - وأن يغض فيها الرجال أبصارهم والنساء أبصارهن عن كل ما هو قبيح .
وما وجدت أمة انتشرت فيها الفاحشة ، كالزنا واللواط وما يشبههما ، إلا وكان أمرها فرطاً ، وعاقبتها خسرا ، إذ فاحشة الزنا تؤدى إلى ضياع الأنساب ، وانتشار الأمراض ، وفساد النفوس من كل قيمة خلقية مقبولة .
وفاحشة اللواط وما يشبهها تؤدى إلى شيوع الفاحشة فى الأمة ، وإلى تحول من يأتى تلك الفاحشة من أفرادها إلى مخلوقات منكوسة ، تؤثر الرذيلة على الفضيلة .
وجملة : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } تعليل للاستثناء .
أى : هم حافظون لفروجهم ، فلا يستعملون شهواتهم إلا مع أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنهم غير مؤاخذين على ذلك ، لأن معاشرة الأزواج أو ما ملكت الأيمان ، مما أحله الله تعالى .
والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل أن يودعها بذور الحياة : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ) . . ومسألة الازواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلا . فهي النظام المشروع المعروف . أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان .
ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال ، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي . واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي . فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد ، فيصبح أسارى المسلمين رقيقا عند أعدائه ، بينما هو يحرر أسارى الأعداء . . فجفف الإسلام كل منابع الرق - عدا أسرى الحرب - إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى .
ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات ، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح . فأباح الإسلام حينئذ الاستمتاع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحررن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلا لتحرير الرقيق .
ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن ، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق - هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام ! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية . والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة . . إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها . وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة . وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها . وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها . . الخ .
وعلى أية حال فقد كان الاسترقاق في الحرب ضرورة وقتية ، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى ، ولم يكن جزءا من النظام الاجتماعي في الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ هُمْ لِلزّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاّ عَلَىَ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىَ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين هم لزكاة أموالهم التي فرضها الله عليهم فيها مؤدّون ، وفعلهم الذي وصفوا به هو أداؤهموها . وقوله : وَالّدِينَ هُمْ لِفُرُوجهِمْ حافِظُونَ إلاّ عَلى أزْوَاجِهِمْ يقول : والذين هم لفروج أنفسهم . وعنى بالفروج في هذا الموضع : فروج الرجال ، وذلك أقبالهم . حَافِظُونَ يحفظونها من أعمالها في شيء من الفروج . إلاّ عَلى أزْوَاجِهمْ يقول : إلاّ من أزواجهم اللاتي أحلهنّ الله للرجال بالنكاح . أوْ ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ يعني بذلك : إماءهم . و «ما » التي في قوله : أوْ ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ في محلّ خفض عطفا على الأزواج . فإنّهُمْ غيرُ مَلُومِينَ يقول : فإن من لم يحفظ فرجه عن زوجه وملك يمينه ، وحفظه عن غيره من الخلق ، فإنه غير مُوَبّخ على ذلك ولا مذموم ولا هو بفعله ذلك راكب ذنبا يلام عليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إلاّ عَلى أَزْوَاجِهِم أَوْ ما مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ فإنّهُمْ غيرُ مَلُومِينَ يقول : رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم وما ملكت أيمانهم .
الاستثناء في قوله : { إلاّ على أزواجهم } الخ استثناء من عموم متعلَّقات الحفظ التي دلّ عليها حرف { على } ، أي حافظونها على كل ما يُحفظ عليه إلاّ المتعلَّق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فضمن { حافظون } معنى عدم البذل ، يقال : احفظ علي عنان فرسي كما يقال : أمسكْ عليّ كما في آية { أمسِكْ عَلَيْكَ زَوجك } [ الأحزاب : 37 ] . والمراد حِل الصنفين من بين بقية أصناف النساء . وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بَيْنَهُ . وتفاصيل الأحوال من حال حِل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين ، وكذلك في الإماء .
والتعبير عن الإماء باسم { ما } الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لا يحتَاج معه إلى تأويل .
وقوله : { فإنهم غير ملومين } تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء ، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضاً لا يوجب اللوم الشرعي ، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون .
والفاء في قوله : { فإنهم غيرُ ملومين } تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرىء بالفاء تحقيقاً للاشتراط .