{ فَأَنْجَيْنَاهُ } أي : هودا { وَالَّذِينَ } آمنوا { مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا } فإنه الذي هداهم للإيمان ، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته ، { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدا ، وسلط اللّه عليهم الريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، فأهلكوا فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج ، فلم ينقادوا لها ، وأمروا بالإيمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلاك ، والخزي والفضيحة .
{ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }
وقال هنا { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ } بوجه من الوجوه ، بل وصفهم التكذيب والعناد ، ونعتهم الكبر والفساد .
{ 73 - 79 } { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } إلى آخر قصتهم{[315]} .
ولم يطل انتظار هود عليهم ، فقد حل بهم العقاب الذي توعدهم به سريعا ولذا قال - تعالى - : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } الفاء فصيحة . أى : فوقع ما وقع فأنجينا هودا والذين اتبعوه في عقيدته برحمة عظيمة منا لا يقدر عليها غيرنا .
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أى : استأصلناهم عن آخرهم بالريح العقيم التي { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } فقطع الدابر كناية عن الاستئصال والاهلاك للجميع يقال قطع الله دابره أى : أذهب أصله .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم - كمرثد بن سعد - ومن نجا مع هود - عليه السلام - كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أن الهلاك للمكذبين ونجى الله المؤمنين " .
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وتحقق النذير في قوم هود كما تحقق قبل ذلك في قوم نوح .
( فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين )
فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد . وهو ما عبر عنه بقطع الدابر . والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم !
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين . وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير . . ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى . فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الإستعراض السريع ؛ ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأنجينا نوحا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما عاد إليه من توحيد الله وهجر الاَلهة والأوثان برَحْمَةٍ مِنّا وقَطَعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : وأهلكنا الذين كذّبوا من قوم هود بحججنا جميعا عن آخرهم ، فلم نبق منهم أحدا . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقَطَعْنا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا قال : استأصلناهم .
وقد بيّنا فيما مضى معنى قوله : فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الّذِين ظَلَمُوا بشواهده بما أغنى عن إعادته . وَما كانُوا مُؤمِنِينَ يقول : لم يكونوا مصدّقين بالله ولا برسوله هود .
{ فأنجيناه والذين معه } في الدين . { برحمة منا } عليهم . { وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا } أي استأصلناهم . { وما كانوا مؤمنين } تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان . روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودا فكذبوه ، وازدادوا عتوا فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح ، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم و أكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يُسقينا الغماما
فيُسقي أرض عاد أن عادا *** قد امسوا ما يُبينُون الكلاما
حتى غنتا به ، فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك . فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا : { هذا عارض ممطرنا } فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا .
الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هوداً والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هوداً إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه ، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : { والذين معه } . والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هوداً ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتاً لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمناً طويلاً لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه : { أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] فهو ظاهر في أنّ عاداً وثموداً كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب .
وقوله : { برحمة منا } الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير { رحمة } للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( مِنَّا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
وتفسير قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } نظير قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة الأنعام ( 45 ) ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعاً ولم يبق منهم أحد . والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح آنفاً ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .
{ وما كانوا مؤمنين } عطف على { كذّبوا } فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضاً بمشركي قريش ، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيراً أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعاً لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعداداً لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها .