وقوله - سبحانه - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } يصح أن يكون جوابا للقسم . والفلاح : الظفر بالمطلوب .
والتزكية : التزود من الخير والطاعة ، والحرص على تطهير النفس من كل سوء ، وقوله : { دَسَّاهَا } أى : نقصها وأخفاها بالمعاصى والآثام . وأصل فعل دسَّى : دسَّسَ ، فلما اجتمع ثلاث سينات ، قلبت الثالثة ياء ، يقال : دس فلان الشئ إذا أخفاه وكتمه .
والمعنى : وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها ، وحق النفس وحق من سواها ، وجعلها متمكنة من معرفة الخير والشر . لقد أفلح وفاز وظفر بالمطلوب ، ونجا من المكروه ، من طهر نفسه من الذنوب والمعاصى . وقد خاب وخسر نفسه . وأوقعها فى التهلكة ، من نَقَصها وأخفاها وأخملها وحال بينها وبين فعل اليخر بسبب ارتكاب الموبقات والشرور .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله - تعالى - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } جواب القسم . وإليه ذهب الزجاج وغيره . والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الكلام المقتضى للتخفيف . وفاعل من " زكاها " ضمير " مَنْ " والضمير المنصوب للنفس . .
ويرى المحققون من العلماء أن جواب القسم محذوف ، للعلم به ، فكأنه - سبحانه - قد قال : وحق الشمس وضحاها ، وحق القمر إذا تلاها . . ليقعن البعث والحساب والجزاء ، أو لتحاسبن على أعمالكم ، ودليل هذا الجواب قوله - تعالى - بعد ذلك : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } لأن هذه الآية الكريمة وما بعدها ، تدل على أن الله - تعالى - قد اقتضت سنته ، أن يحاسب من فسق عن أمره ، وأصر على تكذيب رسله .
وعلى هذا سار صاحب الكشاف ، فقد قال : فإن قلت : فأين جواب القسم ؟ قلت : هو محذوف ، تقديره : ليُدَمْدِ مَنَّ الله عليهم ، أى : على مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على قبيلة ثمود لأنهم كذبوا صالحا - عليه السلام - وأما قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } فكلام تابع لقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم فى شئ . .
وقد أقسم الله - تعالى - بهذه الكائنات المختلفة ، والتى لها مالها من المنافع بالنسبة للإِنسان وغيره ، لتأكيد وحدانيته ، وكمال قدرته ، وبليغ حكمته .
وبدأ - سبحانه - بالشمس ، لأنها أعظم هذه الكائنات ، وللتنويه بشأن الإِسلام ، وأن هديه كضياء الشمس ، الذى لا يترك للظلام أثرا .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث ، منها ما رواه الطبرانى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } وقف ثم قال : " اللهم آت نفسى تقواها أنت وليها ومولاها . وخير من زكاها " وعن أبى هريرة رضى الله عنه . قال : " سمعت النبى يقرأ { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : " اللهم آت نفسى تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، وليها ومولاها " " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا * كَذّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ * إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ نَاقَةَ اللّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوّاهَا * وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } .
قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها يقول : قد أفلح من زكّى اللّهُ نفسه ، فكّثر تطهيرها من الكفر والمعاصي ، وأصلحها بالصالحات من الأعمال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها يقول : قد أفلح من زكّى اللّهُ نفسَه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مَهْران ، عن سفيان ، عن خَصِيف ، عن مجاهد وسعيد بن جُبير وعكرِمة : قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها قالوا : من أصلحها .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد وسعيد بن جُبير ، ولم يذكر عكرِمة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها من عمل خيرا زكّاها بطاعة الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها قال : قد أفلح من زكّى نفسَه بعمل صالح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها يقول : قد أفلح من زكى اللّهُ نفسَه . وهذا هو موضع القسم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قد وقع القسم ها هنا قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكّاها .
وقد ذكرتُ ما تقول أهل العربية في ذلك فيما مضى من نظائره قبلُ .
قد أفلح من زكاها أنماها بالعلم والعمل جواب القسم وحذف اللام للطول كأنه لما أراد به الحث على تكميل النفس والمبالغة فيه أقسم عليه بما يدلهم على العلم بوجود الصانع ووجوب ذاته وكمال صفاته الذي هو أقصى درجات القوة النظرية ويذكرهم عظائم آلائه ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه الذي هو منتهى كمالات القوة العملية وقيل هو استطراد بذكر بعض أحوال النفس والجواب محذوف تقديره ليدمدمن الله على كفار مكة لتكذيبهم رسول صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام .
وجواب القسم في قوله { قد أفلح } ، التقدير : لقد أفلح ، والفاعل ب «زكى » يحتمل أن يكون الله تعالى ، وقاله ابن عباس وغيره كأنه قال : قد أفلحت الفرقة أو الطائفة التي زكاها الله تعالى ، و { من } : تقع على جمع وإفراد ، ويحتمل أن يكون الفاعل ب «زكى » الإنسان ، وعليه تقع { من } وقاله الحسن وغيره ، كأنه قال : { قد أفلح } من زكى نفسه أي اكتسب الزكاء الذي قد خلقه الله ، و { زكاها } معناه : طهرها ونماها بالخيرات
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم ، وإن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخَيبة المشركين كما جُعل في سورة الليل ( 4 ، 5 ) جوابَ القسم قولْه : { إن سعيكم لشتى فأما من أعطى } الخ .
ويجوز أن تكون جملةً معترضة بين القَسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى ، أي أفلح من زكّى نفسه واتّبع ما ألهمه الله من التقوى ، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإِدراك والإِرشاد الإلهي .
وهذه الجملة توطئة لجملة : { كذبت ثمود بطغواها } [ الشمس : 11 ] فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دَسَّوا أنفسهم بالطغوى .
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى ، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية .
و { مَن } صادقة على الإِنسان ، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها ، فالإِنسان والنفس شيء واحد ، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإِرادة والاكتساب .