{ وقوله : 82 } { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا }
فالقرآن مشتمل على الشفاء والرحمة ، وليس ذلك لكل أحد ، وإنما ذلك للمؤمنين به ، المصدقين بآياته ، العاملين به ، وأما الظالمون بعدم التصديق به أو عدم العمل به ، فلا تزيدهم آياته إلا خسارًا ، إذ به تقوم عليهم الحجة ، فالشفاء الذي تضمنه القرآن عام لشفاء القلوب ، من الشبه ، والجهالة ، والآراء الفاسدة ، والانحراف السيئ ، والقصود السيئة{[477]}
فإنه مشتمل على العلم اليقيني ، الذي تزول به كل شبهة وجهالة ، والوعظ والتذكير ، الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله ، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها .
وأما الرحمة ، فإن ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحث عليها ، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية ، والثواب العاجل والآجل .
قال الفخر الرازى - رحمه الله - : اعلم أنه - تعالى - لما أطنب فى شرح الإِلهيات والنبوات ، والحشر والمعاد والبعث ، وإثبات القضاء والقدر ، ثم أتبعه بالأمر بالصلاة ، ونبه على ما فيها من الأسرار ، وإنما ذكر كل ذلك فى القرآن ، أتبعه ببيان كون القرآن شفاء ورحمة . فقال - تعالى - : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ . . } .
ثم قال : ولفظة { من } ههنا ليست للتبعيض ، بل هى للجنس كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } والمعنى : وننزل من هذا الجنس الذى هو قرآن ما هو شفاء ، فجميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .
ومما لا شك فيه ، أن قراءة القرآن ، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته . . شفاء للنفوس من الوسوسة ، والقلق ، والحيرة ، والنفاق ، والرذائل المختلفة ، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذى يحزنهم ويشقيهم .
إنه شفاء ورحمة لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإِيمان ، فأشرقت بنور ربها ، وتفتحت لتلقى ما فى القرآن من هدايات وإرشادات .
إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق ، وشفاء لها من الأمراض الجسمانية .
قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : اختلف العلماء فى كونه - أى القرآن - شفاء على قولين :
أحدهما : أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب ، ولكشف غطاء القلب من مرض الجهل .
الثانى : أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه ، وقد روى الأئمة - واللفظ للدار قطنى - عن أبى سعيد الخُدرى قال : " بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سرية ثلاثين راكبًا . قال : فنزلنا على قوم من العرب فسألناهم أن يضيفونا فأبوا . قال : فلدغ سيد الحى ، فأتونا فقالوا : أفيكم أحد يَرْقى من العقرب ؟ قال : قلت : أنا نعم ، ولكن لا أفعل حتى تعطونا فقالوا : فإنا نعطيكم ثلاثين شاة . قال : فقرأت عليه { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } سبع مرات فبرئ . فبعثوا إلينا بالنُّزل وبعثوا إلينا بالشاء . فأكلنا الطعام أنا وأصحابى ، وأبوا أن يأكلوا من الغنم ، حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر ، فقال " ما يدريك أنها رقية " ؟ قلت : يا رسول الله ، شئ ألقى فى روعى . قال : " كلوا وأطعمونا من الغنم " " .
والذى تطمئن إليه النفس أن قراءة القرآن الكريم ، والعمل بما فيه من هدايات وإرشادات وتشريعات . . كل ذلك يؤدى - بإذن الله تعالى - إلى الشفاء من أمراض القلوب ومن أمراض الأجسام .
قال بعض العلماء : " وقوله - تعالى - فى هذه الآية { مَا هُوَ شِفَآءٌ } يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ، كالشك والنفاق وغير ذلك . وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليه به ، كما تدل له قصة الذى رقى الرجل اللديغ بالفاتحة ، وهى صحيحة مشهورة " .
وبعد أن بين - سبحانه - أثر القرآن بالنسبة للمؤمنين ، أتبع ذلك ببيان أثره بالنسبة للظالمين ، فقال : { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } .
أى : ولا يزيد ما ننزله من قرآن الظالمين إلا خسارا وهلاكًا ، بسبب عنادهم وجحودهم للحق بعد إذ تبين .
قال الآلوسى : وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن . مع أنهم المزدادون فى ذلك لسوء صنيعهم ، باعتباره سببا لذلك ، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارًا للشفاء والشقاء .
كماء صار فى الأصداف درا . . . وفى ثغر الأفاعى صار سما
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } وقوله - تعالى - { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }
وقوله عزّ وجلّ : ونُنَزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ يقول تعالى ذكره : وننزّل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل من الضلالة ، ويبصر به من العمى للمؤمنين ورحمة لهم دون الكافرين به ، لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله ، ويحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة ، ويُنجيهم من عذابه ، فهو لهم رحمة ونعمة من الله ، أنعم بها عليهم وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلاّ خَسارا يقول : ولا يزيد هذا الذي ننزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خسارا : يقول : إهلاكا ، لأنهم كلما نزل فيه أمر من الله بشيء أو نهى عن شيء كفروا به ، فلم يأتمروا لأمره ، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه ، فزادهم ذلك خسارا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار ، ورجسا إلى رجسهم قبلُ ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنُنّزّلُ مِنَ القُرآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظّالِمِينَ به إلاّ خَسارا أنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.