قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .
الله تعالى هو الذي خلقكم ، خلق الخلق أجمعين ، هو الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له السمع ليسمع ويتأمّل ويهتدي ، وخلق الأبصار ، والعين فيها أعداد كثيرة من مكونات الإبصار ، وهو سبحانه خلق القلوب والعقول للتفكّر والتأمّل والاعتبار ، والإنسان مطالب بشكر هذه النعم ، وشكر النعمة هو حسن استخدامها فيما خلقت لأجله ، ولكن الإنسان قليلا ما يشكر هذه النّعم ، مع أن شكر النعمة واجب على الإنسان نحو خالقه ، بأن يحسن الاستماع إلى ما يفيد ، ويحسن النظر إلى ما ينفع ، ويحسن التأمل والتدبر فيما يفيده وينفعه في دينه ودنياه وآخرته .
ولما كان العرب الموعوظون بهذا الذكر{[67050]} يتغالون في التفاخر بالهداية{[67051]} في الطرق المحسوسة ، وعدم الإخلال بشكر المعروف لمسديه ولو قل ، فنفى عنهم الأول بقيام الأدلة على خطئهم الفاحش في كل ما خالفوا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من طريقهم المعنوي الذي اتخذوه ديناً ، فهو أشرف من الطريق المحسوس ، أتبعه بيان انسلاخهم من الثاني مع التأكيد لانسلاخهم من{[67052]} الأول ، قال آمراً للرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيههم ، لأن الإنسان على نوعه أقبل ، لأنه إليه أميل ، إسقاطاً{[67053]} لهم من رتبة الفهم عن الله سبحانه وتعالى ، لسفول هممهم{[67054]} ولقصور نظرهم ، مع أنه جعل لهم حظاً ما من الحضور بتأهيلهم لخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، لإقامتهم بالمذكور في الآية فيما{[67055]} يرجى معه العلم ، ويورث الفطنة و{[67056]}الفهم : { قل } أي يا أشرف الخلق وأشفقهم{[67057]} عليهم مذكراً لهم بما{[67058]} دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه ، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه ، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته ، فيمشي كل منهم سوياً : { هو } أي الله سبحانه وتعالى { الذي } شرفكم بهذا الذكر ، وبين لكم هذا البيان ، وحده الذي{[67059]} { أنشأكم } أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية ، حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم ، ويسر لكم بعد خروجكم الخروج{[67060]} اللبن ، حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه .
ولما كان من{[67061]} أعظم النعم الجليلة{[67062]} بعد الإيجاد العقل ، أتبعه به ، وبدأ{[67063]} بطريق تنبيهه فقال : { وجعل لكم } أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه { السمع } أي{[67064]} الكامل لتسمعوا ما {[67065]}تعقله قلوبكم{[67066]} فيهديكم ، ووحده لقلة التفاوت فيه ، ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة ، مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها ، { والأبصار } لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا{[67067]} عما يرديكم{[67068]} { والأفئدة } أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد{[67069]} بالإدراك لما{[67070]} لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم ، وجمعه لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار ، وهذا تنبيه على إكمال{[67071]} هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر ، قال الشيخ ولي الدين الملوي : انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد ، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين{[67072]} في آن واحد ، وأن الضدين لا يجتمعان - وغير ذلك مما لا يخفى .
ولما كان التقدير : فمشيتم{[67073]} مشي المكب على وجهه ، فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق{[67074]} له ، كانت ترجمة ذلك : { قليلاً } وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال : { ما } ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله : { تشكرون * } أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره ، باستعماله فيما خلق لأجله ، وأنكم تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في{[67075]} العرفان .