وفي ختام السورة وصية جديدة للرسول والمؤمنين بالصبر واليقين بالنصر ليتوافق الختام مع البدء حيث بدئت السورة ببيان هزيمة الروم أمام الفرس وبوعد الله أن ينتصر الروم على الفرس في بضع سنين وأن هذا الوعد لن يتخلف فالله لا يخلف الميعاد ثم يكون الختام مؤيدا لهذا المعنى .
{ فاصبر إن وعد الله حق لا يستخلفنك الذين لا يوقنون . }
لا يستخفنك : لا يحملنك على الخفة والقلق .
لا يوقنون : لا يصدقون بالبعث ولا يؤمنون بالله ورسوله إيمانا حقا .
أي اصبر يا محمد على أداء رسالتك ، وتبليغ دعوتك أنت ومن معك من المؤمنين متحملين الشكوك من الكافرين والعقبات من المشركين .
{ ولا يستخلفنك الذين لا يوقنون . }
أي : لا يحملنك على الخفة والقلق الذين لا يوقنون بوعد الله فهم في شك منه وقلق وحيرة لأن قلوبهم محجوبة عن الإيمان بالله واليقين بما عنده .
إن الله تعالى منجزلك وعده بالنصر والتوفيق ، فلا يتسرب إليك القلق أو الشك أو الخفة ، من تكذيبهم بالآيات ، وإنكارهم لها ومكرهم فيها ، فان العاقبة للمتقين ، ولمن اعتصم بما جئت به من المؤمنين ، وفي هذا إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم وتعليم له ، بأن يتلقى المكاره بصدر رحب ، وسعة حلم .
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي : أن رجلا من الخوارج نادى عليا وهو في صلاة الفجر فقال : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } . ( الزمر : 65 ) فأجابه وهو في الصلاة : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخلفنك الذين لا يوقنون .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
خلاصة موجزة لما اشتملت عليه سورة الروم
1- إثبات النبوة بالإخبار بالغيب .
2- البراهين الدالة على الوحدانية .
3- الاعتبار بما حدث للمكذبين من قبلهم .
4- الأدلة التي في الآفاق شاهدة على وحدانية الله وعظيم قدرته .
6- الأمر بعبادة الله وحده وهي الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
7- النهي عن اتباع المشركين الذين فرقوا دينهم بحسب أهوائهم .
8- من دأب الناس الفرح بالنعمة والقنوط من الشدة ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .
9- الأمر بالتصدق على ذوي القربى والمساكين وابن السبيل .
10- في النظر في آثار المكذبين عبرة لمن اعتبر .
11- تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على عدم إيمان قومه بأنهم صم عمي لا يسمعون ولا يبصرون .
12- الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغاية في الإعذار والإنذار لكن قومه قد بلغوا الغاية في التكذيب والإنكار .
13- أمره صلى الله عليه وسلم بالاستمرار في تبليغ الدعوة ، مهما لاقى من الأذى والإحباط فإن العاقبة للمتقين .
i انظر تفسير الجلالين والطبري ومقاتل بن سليمان وظلال القرآن وفي أسباب النزول للوا حدي .
ii في تفسير الجلالين أن نصر الروم كان يوم بدر ، فإذا لاحظنا أن نزول سورة الروم كان قبل الهجرة بسنة ، رجحنا ما ورد في تفسير مقاتل بن سليمان من أن نصر الروم على الفرس جاء خبرة للمسلمين وهم في الحديبية ( 6 هجريا ) ولذلك يكون بين الهزيمة والنصر بضع سنين أو سبع سنين .
iii التفسير المنير أ د وهبة الزحيلي 21/49 ، وتفسير القاسمي 13/456 تحقيق ا محمد فؤاد عبد الباقي طبعة دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان 1415ه - 1994م .
v أعددت لعبادي الصالحين ما لا عيبن رأت :
رواه البخاري في بدء الخلق 3244 ، وفي التفسير ح4779 ، وفي التوحيد ح 7498 ومسلم في الجنة ح 3824 والترمذي في التفسير ح 3197 ، 3292 وابن ماجة في الزهد ح 4328 ، وأحمد ح 9328 ، وأحمد ح 9365 ، 9688-10051 والدارمي في الرقاق ح2828 من حديث أبي هريرة .
vi باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه :
رواه البخاري في الدعوات ( 6320 ) وفي التوحيد ( 7393 ) ومسلم في الذكر ( 2714 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم يقول : باسمك رب وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين .
vii الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا :
رواه البخاري في الدعوات ( 6312-6314-6324 ) والترمذي في الدعوات ( 3417 ) وأحمد في مسنده ( 22760 ) من حديث حذيفة بن اليمان قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال : " باسمك أموت وأحيا وإذا قام قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " ورواه البخاري في الدعوات ( 6325 ) من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل قال : " اللهم باسمك أموت وأحيا " فإذا استيقظ قال : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور " .
viii اللهم غارت النجوم وهدأت العيون :
قال الهيثمي في المجتمع عن زيد بن ثابت قال : أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قل " اللهم غارت النجوم وهدأت العيون وأنت حي قيوم يا حي قيوم أنم عيني وأهدىء ليلي " فقلتها فذهب عني وقال رواه الطبراني وفيه عمرو بن الحصين العقيلي وهو متروك وذكره مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة فقال : وحدتني عن مالك أنهم بلغهم أن أبا الدرداء كان يقون من جوف الليل فيقول : نامت العيون وغارت النجوم وأنت حي قيوم فذكره هكذا من قول أبي الدر داء وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على من وصله ، ولا أسنده ابن عبد البر مع تتبعه لذلك ، الخ ، الفتوحات الربانية 3/177 .
ix اللهم رب السماوات السبع : رواه الترمذي في الدعوات ( 3523 ) من حديث بريدة قال : شكا خالد بن الوليد المخزومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما أنام الليل من الرق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أويت على فراشك فقل : اللهم رب السموات السبع وما أظلت ورب الأرضين وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت كن لي جارا من شر خلقك كلهم جميعا أن يفرط على أحد منهم أو أن يبغى عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك لا إله إلا أنت " قال أبو عيسى : هذا حديث ليس إسناده بالقوي والحكم بن ظهير قد ترك حديثه بعض أهل الحديث ويروى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا عن غير هذا الوجه .
x التفسير الكبير لفخر الدين الرازي دار إحياء التراث العربي ببيروت لبنان طبعة جديدة ملونة ، المجلد التاسع ص 99 .
أخرجه مسلم في الزهد ( 2999 ) وأحمد ( 18455-18460-23406-23412 ) والدارمي ( 2777 ) من حديث صهيب بن سنان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " .
xii والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم :
رواه البخاري في بدء الوحي ( 4 ) وفي الحوالة ( 2298 ) وفي المناقب ( 3906 ) وفي التفسير ( 4954 ) ومسلم في الإيمان ( 160 ) من حديث عائشة قالت : أول ما بدء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة ، الحديث وفيه : فقال لخديجة وأخبرها الخبر " لقد خشيت على نفسي " فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق . . . الحديث .
xiii تفسير القاسمي المجلد الخامس ص 466 تحقيق فؤاد عبد الباقي مطبعة دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان .
xiv تفسير القاسمي المجلد الخامس ص 466 تحقيق فؤاد عبد الباقي مطبعة دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان وهناك بقية الأدلة .
xv رجح ذلك الرأي محمد سيد طنطاوي في تفسير الآية .
xvi من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب :
رواه البخاري في الزكاة ( 1410 ) وفي التوحيد ( 7429 ) ومسلم في الزكاة ( 1014 ) والترمذي في الزكاة ( 661 ) والنسائي في الزكاة ( 2525 ) وابن ماجة في الزكاة ( 1842 ) والدارمي في الزكاة ( 1675 ) وأحمد في مسنده ( 8181-8738-9142- 9281 -9738-10562 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يريها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل " ورواه أحمد في مسنده ( 25604 ) من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد " .
رواه الترمذي في البر ( 1931 ) وأحمد في مسنده ( 26988 ) من حديث أبي الدر داء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة قال أبو عيسى هذا حديث حسن .
xviii تفسير القاسمي المجلد الخامس ص 469 مطابع دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان .
xix في ظلال القران 21/45 طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه .
xx والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم :
رواه البخاري في المغازي ( 3976 ) من حديث أبي طلحة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا مكن صناديد قريش فقذفوا في طوى من اطواء بدر خبيث وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفة الركى فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " قال قتادة أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا وحسرة وندما ، ورواه البخاري في الجنائز ( 1370 ) وفي المغازي( 4026 ) من حديث ابن عمر قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أهل القليب فقال : " وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ فقيل له : تدعو أمواتا فقال " ما أنتم باسمع منهم ولكن لا يجيبون " ورواه مسلم في الجنة ( 2873 ) من حديث أنس : كنت مع عمر ح وحدثنا شيبان بن فروج واللفظ له حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت بن مالك قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال وكنت رجلا حديد البصر فرأيته وليس أحد يزعم أنه رآه غيري قال : فجعلت أقول لعمر أما تراه فجعل لا يراه قال عمر : سأراه وأنا مستلق على فراشي ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله قال : فقال عمر : فوالدي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليه فقال : " يا فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا " ؟ قال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا روح فيها ؟ قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا " ورواه مسلم في الجنة ( 2875 ) من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم فقال : " يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر .
xxi السلام عليكم دار قوم مؤمنين :
رواه مسلم في الجنائز ( 974 ) والنسائي في الجنائز ( 2039 ) وأحمد في مسنده ( 23904 ) من حديث عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل البقيع الغرقد " ولم يقل قتيبة قوله : واتاكم .
xxii انظر تفسير ابن كثير وتفسير الألوسي وتفسير الطبري وتفسير القاسمي والتفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والتفسير المنير للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فاصبر يا محمد لما ينالك من أذاهم، وبلغهم رسالة ربك، فإن وعد الله الذي وعدك من النصر عليهم، والظفر بهم، وتمكينك وتمكين أصحابك وتُبّاعك في الأرض حقّ.
"وَلا يسْتَخِفّنّك الّذِينَ لا يُوقِنُونَ" يقول: ولا يستخفنّ حلمك ورأيك هؤلاء المشركون بالله الذين لا يوقنون بالمعاد ولا يصدّقون بالبعث بعد الممات، فيثبطوك عن أمر الله والنفوذ لما كلّفك من تبليغهم رسالته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فاصبر إن وعد الله حق} قال بعضهم: فاصبر على تكذيبهم إياك بالعذاب الذي وعدت لهم {إن وعد الله حق} في العذاب بأنه نازل بهم.
وجائز أن يكون قوله: {فاصبر} أي اصبر على أذاهم الذي يؤذونك {إن وعد الله حق} في النصر لك والمعونة.
وقوله تعالى: {ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} كأنه يقول: لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك.
وقال بعضهم: {ولا يستخفنك} أي لا يستفزّنك؛ ويقول: لا يستجهلنك. وأصله ما ذكرنا أي لا يحملنك أولئك الكفرة على الخفة والعجلة والجهل حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم، وهو، والله أعلم، من الاستخفاف.
{ولا يستخفنك الذين لا يوقنون} إشارة إلى وجوب مداومة النبي عليه الصلاة والسلام على الدعاء إلى الإيمان فإنه لو سكت لقال الكافر إنه متقلب الرأي، لا ثبات له،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا مذكراً بعظيم قدرته بعد الإياس من إيمانهم، سبب عنه قوله: {فاصبر} أي على إنذارهم مع هذا الجفاء والرد بالباطل والأذى، فإن الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا.
ولما كان قد تقدم إليه بأنه لا بد أن يظهر أمره على كل أمر، علله بقوله مؤكداً لأن إنفاذ مثل ذلك في محل الإنكار لعظم المخالفين وكثرتهم مظهراً غير مضمر لئلا يظن التقييد بحيثية الطبع: {إن وعد الله} أي الذي له الكمال كله في كل ما وعدك به الذي منه نصرك وإظهار دينك على الدين كله ونصر من قارب أتباعك في التمسك بكتاب من كتب الله وإن كان قد نسخ على من لا كتاب له {حق} أي ثابت جداً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان، وتأتي به مطايا الحدثان.
ولما كان التقدير: فلا تعجل، عطف عليه قوله: {ولا يستخفنك} أي يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره أو بتفتيرك عن التبليغ، بل كن بعيداً منهم بالغلظة والجفاء والصدع بمر الحق من غير محاباة ما، بعداً لا يطمعون معه أن يحتالوا في خفتك في ذلك بنوع احتيال.
وقراءة "يستحقنك "من الحق معناها: أي لا يطلب منك الحق الذي هوالفصل العدل بينك وبينهم أي لا تطلبه أنت، فهو مثل: لا أرينك ههنا تنهى نفسك وأنت تريد نهيه عن الكون بحيث تراه.
{الذين لا يوقنون} أي أذى الذين لا يصدقون بوعودنا تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون فأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون بنصر الله لأوليائه المؤمنين ولمن قاربهم في التمسك بكتاب أصله صحيح، فهم يبالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم ليخاطرون في وعد الله بنصر الروم على فارس، كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أن ذلك لا يكون، فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهار عن قريب علموا كذبهم عياناً، وعلموا -إن كان لهم علم- أن الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون، ويحشرون وهو داخرون، {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون} [الشعراء: 227]، فقد انعطف آخرها على أولها عطف الحبيب على الحبيب، واتصل به اتصال القريب بالقريب، والتحم التحام النسيب بالنسيب...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: لا شك فيه وهذا مما يعين على الصبر فإن العبد إذا علم أن عمله غير ضائع بل سيجده كاملا هان عليه ما يلقاه من المكاره [ص 646] ويسر عليه كل عسير واستقل من عمله كل كثير. {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} أي: قد ضعف إيمانهم وقل يقينهم فخفت لذلك أحلامهم وقل صبرهم، فإياك أن يستخفك هؤلاء فإنك إن لم تجعلهم منك على بال وتحذر منهم وإلا استخفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفس تساعدهم على هذا وتطلب التشبه والموافقة وهذا مما يدل على أن كل مؤمن موقن رزين العقل يسهل عليه الصبر، وكل ضعيف اليقين ضعيف العقل خفيفه. فالأول بمنزلة اللب والآخر بمنزلة القشور.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم، ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون.. يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومن معه من المؤمنين: (فاصبر إن وعد الله حق، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون).. إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية! والثقة بوعد الله الحق، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك.. الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله. ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين. فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين. مهما يطل هذا الطريق، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم! وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين، ونصر المؤمنين. تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله؛ والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون. فيتناسق البدء والختام. وتنتهي السورة وفي القلب منا إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب، واليقين الثابت الذي لا يخون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرع على جملة {ولئن جِئْتَهم بآية} [الروم: 58] لتضمنها تأييسه من إيمانهم. وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه، أي اصبر على تعنتهم.
والحق: مصدر حَقّ يحِقّ بمعنى ثبت، فالحق: الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة.
والاستخفاف: مبالغة في جعله خفيفاً فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو: استجاب واستمسك، وهو ضد الصبر. والمعنى: لا يحملُنّك على ترك الصبر. والخفة مستعارة لحالة الجزع وظهور آثار الغضب. وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل. وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال. ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح، وذلك مما يستفز غضب الحليم، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر، ويأتي قوله تعالى {فاستَخَفّ قومَه فأطاعوه} في سورة الزخرف (54)، وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم.
الذين لا يوقنون: هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام، والظلم، والكفر، وعدم العلم؛ فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم، ومعنى {لا يوقنون} أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
... لقد جاء في السورة وعد الله بنصر المؤمنين أيضا حيث يكون في ذلك قرائن على ترابط فصول السورة وانعقادها في جملتها على بشرى المسلمين بالنصر، ولعل فيها إرهاصا بالنصر الذي كان يوشك أن يتم للنبي عليه السلام والمسلمين فيما اعتزموا عليه من الهجرة إلى المدينة حيث نزلت هذه السورة في ظروف التهيؤ لها. ولعلها نزلت في ظروف الاتصال الأول الذي تمّ بين النبي عليه السلام وبعض زعماء الأوس والخزرج، أو الاتصال الثاني الذي آمن فيه عدد كبير منهم ووعدوه فيه بالنصرة والترحيب بهجرته وهجرة أصحابه إلى المدينة، ولعله كان يفكر في التعجيل بالهجرة فثبته الله وصبّره حتى تتكامل الأسباب أو يشرف على هجرة أصحابه قبله...
إن الله تعالى يريد أن يمحص أتباع محمد، وأن يدربهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله، لا إلى أهل الجزيرة العربية وحدها، إنما إلى الكون كله، فلا بدّ أن يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد، والدليل على ذلك أنهم يؤذون ويضطهدون فيصبرون، وهذه أهم صفة فيمن يعد لتحمل الأمانة. لذلك نقول: إذا رأيت منهجا أو مبدأ يغدق على أصحابه أولا، فاعلم أنه مبدأ باطل: لأن المبدأ الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم، يعطونه قبل أن يأخذوا منه، لماذا؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد من يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولا واشترى ذممهم، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل، ويحمله على اتباعه؟
أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مؤجل للآخرة، فهو ممنّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها، فتهون عليه نفسه، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.
وفي رحلة الدعوة، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تحدث لرسول الله آية أو هزة تهز الناس، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله. فالله يقول لنبيه: اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك، فنحن مؤيدوك، ولن نتخلى عنك، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيتوا لك في الخفاء فانتصرت على تبييتهم، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم. إذن: فاطمئن، فنحن لهم بالمرصاد، ولن نسلمك أبدا، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا، وتراه بعينك، أو في الآخرة بعد موتك: {فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77)} [غافر]. ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قتل وأسر وتشريد، وقلنا: إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر، فقد كان القرآن ينزل على وفق رأيه، ومع ذلك لما نزلت: {سيهزم الجمع ويولون الدبر (45)} [القمر] تعجب وقال: أيّ جمع هذا الذي سيهزم، ونحن عاجزون حتى عن حماية أنفسنا، فلما كانت بدر، ورأى ما رأى قال: صدق الله {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر 45].
{إن وعد الله حق}... الوعد: هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن، وفرق بين الوعد بالخير من إنسان، والوعد من الله تعالى، فوعدك قد يتخلف لأنك ابن أغيار، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد.
والوعد الحق يأتي من الذي يملك كلّ أسباب الوفاء، ولا يمنعه عنه مانع.