تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ} (96)

{ إن اول بيت وضع للناس الذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين }

المفردات :

أول بيت : أول موضع لعبادة الله وحده .

وضع للناس : خصص لعبادتهم .

بكة : من أسماء مكة وبكة علم على البلد الحرام وقيل بكة : للبيت ومكة البلد ، أصله من البك وهو الازدحام .

96

التفسير :

إن أول بيت أقيم لعبادة الله وحده هو البيت الحرام بمكة فقد بناه إبراهيم عليه السلام بأمر الله وعاونه في البناء ولده إسماعيل وأمره الله ان يؤذن في الناس بالحج إليه قال تعالى : { وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }( الحج 27 ) .

قال النيسابوري في تفسيره :

والبيت الحرام أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة .

واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأولوية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولوية أيضا . .

ومن فضائل البيت الحرام ان الآمر ببنائه الرب الجليل والمهندس جبريل وبانيه الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ومصعد الصلوات والطاعات .

ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطباع لا يؤذي بعضها بعضا عنده كالكلاب والظباء .

ومن فضائل البيت أمن سكانه فلم ينقل ألبته ان ظالما هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية وقصة أصحاب الفيل الذين صدهم الله عن البيت الحرام معروفة مشهورة10 .

ومن بركات البيت الحرام انه مكان لأكبر عبادة جامعة للمسلمين وهي فريضة الحج وإليه يتجه المسلمون في صلاتهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأماكنهم .

الوضع والبناء :

أخرج الشيخان واللفظ لمسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع في الأرض ؟ قال المسجد الحرام قلت ثم أي ؟ قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما ؟ قال أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل11 .

قال ابن القيم في زاد المعاد تعقيبا على هذا الحديث قد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به فقال معلوم ان سليمان بن داود هو الذي بنى المسجد الأقصى وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام وهذا من جهل القائل فإن سليمان كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام بعد بناء إبراهيم للكعبة بهذا المقدار أي بأربعين عاما 12

أولية زمان شرف ومنزله :

ذهب بعض المفسرين إلى ان أولية البيت الحرام زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا فقالوا إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وإن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما قال الشيخ محمد : عبده : إذا صح الحديث فلا شيء في العقل يحيله ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته .

وبيت المقدس المعروف الذي انصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق والمعروف أنه تم بناؤه سنة 1005 قبل ميلاد المسيح عليه السلام13 .

وذهب آخرون إلى أنه أول البيوت في الشرف والرفعة ( وعن علي ان رجلا قال له هو اول بيت ؟ قال لا قد كان قبله بيوت ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى والرحمة والبركة ) 14 .

( هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها ) 15 .

من تفسير الفخر الرازي :

قال الفخر الرازي : في اتصال هاتين الآيتين بما قبلها وجوه ، الأول : أن المراد منهما الجواب عن شبهة أخرى من شبهات اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه لما حولت القبلة إلى الكعبة طعن اليهود في نبوته وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال وذلك لانه وضع قبل الكعبة وهو ارض المحشر وقبلة جملة الأنبياء وإذا كان كذلك كان تحويل القبلة إلى الكعبة باطلا فأجاب الله عنه بقوله : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة . . فبين سبحانه أن الكعبة أفضل من بيت المقدس وأشرف فكان جعلها قبلة أولى . . 16 .

والمراد بالأولية أنه اول بيت وضعه الله لعبادته في الأرض وقيل المراد بها كونه أولا في الوضع وفي البناء ورووا في ذلك آثارا ليس فيها ما يعتمد عليه17 .

{ للذي ببكة } بكة لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا ومنه ضربة لازم وضربة لازب وقيل مكة وبكة موضع المسجد وفي الصحاح بكة اسم مكة .

وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكة إذا زحمه ودفعه وعن أبي سعيد بن جبير سميت بكة لانهم يتباركون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة قال بعضهم رأيت محمد بن علي الباقر يصلي فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لانه يبك بعضهم بعضا تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرآة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان ويؤكد هذا قول من قال : بكة موضع المسجد لان المطاف هناك وفيه الازدحام .

وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه . . ) 18 { مباركا وهدى للعالمين } أي كثير الخير والبركة والنماء والزيادة لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب .

قال : صلى الله عليه وسلم " صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " 19 .

وقال في تفسير ابن كثير ما يأتي :

قال قتادة : إن الله بك به الناس جميعا فيصلي النساء أمام الرجل ولا يفعل ذلك ببلد غيرها وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد وقال عكرمة البيت وما حوله بكة وما وراء ذلك مكة وقال مقاتل بن حيان بكة موضع البيت وما سوي ذلك مكة .

وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة : ( مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين وأم القرى والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة والحاطمة والرأس والبلدة والبنية والكعبة ) .

{ وهدى للعالمين } : أي هو بذاته مصدر هداية لأنه قبلتهم ومتعبدهم وفي استقباله توجيه للقلوب والعقول إلى الخير ولعله لا تمر ساعة من ليل أو نهار وليس فيه أناس يتوجهون إلى ذلك البيت يصلون فأي هداية للعالمين اظهر من هذه الهداية ؟ 20 .

قال النيسابوري في تفسيره :

( ولو استحضر العاقل في نفسه ان الكعبة كالنقطة وصفوف المتجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية علم انه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره ) 21 .