السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَآ ءَايَةَۢ بَيِّنَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (35)

ولما كان التقدير ففعلت رسلنا ما وعدوه به من إنجائه وإهلاك جميع قراهم فتركناها كأن لم يسكنها أحد عطف عليه قوله تعالى : { ولقد تركنا } أي : بما لنا من العظمة { منها } أي : من تلك القرى { آية } أي : علامة على قدرتنا على كل ما نريد { بينة } أي : ظاهرة ، قال ابن عباس : منازلهم الخربة ، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض .

فائدة : اتفق القراء على إدغام الدال في التاء .

تنبيه : في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك { لقوم يعقلون } أي : يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل .

تنبيه : ههنا أسئلة : ( الأوّل ) كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال : { فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية } ( العنكبوت ، 15 ) وقال : { فأنجاه الله من النار إنّ في ذلك لآيات } ( العنكبوت ، 24 ) وجعل ههنا الهلاك آية ، ( الثاني ) : ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة { جعلناها آية } ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة ، ( الثالث ) : ما الحكمة في قوله تعالى هناك { للعالمين } وقال ههنا : { لقوم يعقلون } ؟ أجيب عن الأوّل : بأنّ الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنّ في ذلك الوقت لم يكن إهلاك ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر إلهي عجيب وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس ، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي ههنا البلاد وهناك السفينة .

وههنا لطيفة : وهي أنّ الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة ، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر ، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم ، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة ، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان .