السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗا فَقَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرۡجُواْ ٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ} (36)

ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى : { وإلى مدين } أي : ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين { أخاهم } أي : من النسب والبلد { شعيباً } ومدين قيل : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وقيل : اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم ، قال الرازي : والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى : { ولما ورد ماء مدين } ( القصص : 23 ) ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة ، فإن قيل : قال تعالى في نوح : { ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه } ( المؤمنون : 23 ) فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه ، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً ، فما الحكمة في ذلك ؟ .

أجيب : بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره ، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى : { وإلى عاد أخاهم هوداً } { وإلى مدين أخاهم شعيباً } { فقال } أي : فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال : { يا قوم اعبدوا الله } أي : الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً .

فإن قيل : لم يذكر عن لوط عليه السلام أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك ؟ أجيب : بأنّ لوطاً كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وكان إبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يحتج لوط إلى ذكره وإنما ذكر ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها وإن كان هو أبداً يأمر بالتوحيد إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد ، وأمّا شعيب فكان بعد انقراض ذلك الزمن وذلك القوم فكان هو أصلاً في التوحيد فبدأ به .

ولما كان السياق لإقامة الأدلة على البعث الذي هو من مقاصد السورة قال : { وارجوا اليوم الآخر } أي : وافعلوا ما ترجون به العاقبة فأقيم المسبب مقام السبب ، أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوّغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالشرعيات على إرادة الشرط ، وقيل : هو من الرجاء بمعنى الخوف { ولا تعثوا في الأرض } حال كونكم { مفسدين } أي : متعمدين الفساد .