اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَآ ءَايَةَۢ بَيِّنَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ} (35)

قوله : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَة } فيها وجهان :

أحدهما : أن بعضها «باقٍ » وهو آية باقية إلى اليوم ، والمعنى تركنا من قريات ( قوم ){[41421]} لوط آية بيّنة عبرة ظاهرة .

الثاني : أن «من » مزيدة ، وإليه نحا الفراء{[41422]} أي تركناها آية كقوله :

-4029 أَمْهَرْتُ مِنْهَا جُبَّةً وَتَيْسَا{[41423]} *** . . .

أي أمهرتها ، وهذا يجيء على رأي الأخفش ، أي ولقد تركنا القرية . والقربة معلومة ، وفيها الماء الأسود وهي بين القدس والكرك .

فإن قيل : كيف جعل الآية في «نوح » و «إبراهيم » بالنجاة{[41424]} فقال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } . وقال : { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار ( إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } ، وجعل ههنا الهلاك آية ؟ .

فالجواب : أن الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأن في ذلك الوقت لم يكن إهلاك{[41425]} ، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي على أعلى{[41426]} الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً ، والغَرَقُ لم يبق لمن بعده أثره{[41427]} ، فجعل الباقي آية ، وأما ههنا فنجاة «لوط » لم يكن بأمر يبقى أثره للحس والهلاك أثره محسوس في البلاد ، فجعل الآية ههنا البلاد ، وهنا السفينة ، وهنا لطيفة وهي أن الله تعالى آية قدره{[41428]} موجودة في الإنجاء والإهلاك ، فذكر من كل باب آية ، وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة ، وأخر آيات الإهلاك لأنها أثر الغضب ، ورحمته سابقة .

فإن قيل : أما الحكمة في قوله في السفينة «جعلناها آية » ، ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة ؟ .

فالجواب : أنّ الإنجاء بالسفينة أمر يسع له كل العقل{[41429]} وقد يقع في ذهن جاهل أن الإنجاء لا يفتقر إلى أمر آخرَ ، وأما الآية ههنا الخَسْفُ ، وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها ، وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر مخصصة{[41430]} بمكان دون مكان وفي زمان دون زمان فهي بينة لا يمكن لجاهل{[41431]} ، أن يقول هذا أمر يكون كذلك ، وكان{[41432]} له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك ، فيقال له : فلو دام الماء حتى ينفذ زادهم كيف كان حصل{[41433]} لهم النجاة ؟ ولو سلط الله عليهم الريح العاصفة ، وكيف تكون أحوالهم{[41434]} ؟ .

فإن قيل : ما الحكمة في قوله هناك : «لِلْعَالَمِينَ » ، وفي قوله ههنا : «لِقَوْم يَعْقِلُونَ » ؟ .

فالجواب : أن السفينة ( موجودة ){[41435]} معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون{[41436]} بها حال نوح ، وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة ، فلا{[41437]} يثق أحدٌ بمجرد السفينة ، بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرعاً إلى الله تعالى طالباً النجاة{[41438]} ، وأما أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليها إلا من مرّ بها{[41439]} ، ويصل إليها{[41440]} ويكون له عقل يعلم أن ذلك من الله فإرادته{[41441]} بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان ، قال ابن عباس : الآية البينة : آثار منازلهم الخربة{[41442]} . وقال قتادة : هي الحجارة{[41443]} التي أهلكوا بها أبقاها الله ( تعالى ){[41444]} حتى أدركها أوائل هذه الأمة . وقال مجاهد : هي ظهور الماء الأسود على وجه{[41445]} الأرض .


[41421]:زائد فيهما وهو خطأ.
[41422]:لم يذكر الفراء شيئاً عن هذه اللفظة "من" في سورة العنكبوت عند تعرضه لتلك السورة وتفسير معانيها. انظر المعاني 2/314، 317.
[41423]:رجز مجهول قائله، والجبة: نوع من الثياب معروف، والتَّيس: ذكر الماعز والظباء، ومعناه: أنه ساق مهرها هذين الشيئين. والشاهد فيه قوله: "فأمهرت منها" لأن المعنى: فأمهرتها وهذا على قياس رأي الأخفش لأنه ارتأى أن تراد "من" في المثبت أو الموجب، وانظر: شرح الجمل 1/486، والدر المصون 4/304.
[41424]:في ب: النجاة.
[41425]:في ب: هلاك.
[41426]:في ب: من علا.
[41427]:في ب: له بعده أثر.
[41428]:في ب: قدرته.
[41429]:في ب: عقل بدون أل.
[41430]:في ب: يخصصه.
[41431]:في ب: الجاهل.
[41432]:في ب: كان بدون واو.
[41433]:في ب: يحصل.
[41434]:في ب: احتمالهم.
[41435]:ساقط من ب.
[41436]:في ب: يتكلمون.
[41437]:في ب: ولا.
[41438]:في ب: طالب النجاة.
[41439]:في ب: يمر به.
[41440]:في ب: إليه.
[41441]:في ب: وإرادته بالواو.
[41442]:انظر: القرطبي 13/343.
[41443]:وهذا رأي أبي العالية أيضاً، انظر: القرطبي 13/343.
[41444]:ساقط من ب.
[41445]:المرجع السابق.