القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا الله من خلقه ، فخافوا عقابه بأداء فرائضه ، واجتناب معاصيه إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول : إذا ألمّ بهم طيف من الشيطان من غضب أو غيره مما يصدّ عن واجب حقّ الله عليهم ، تذكّروا عقاب الله وثوابه ووعده ووعيده ، وأبصروا الحقّ فعملوا به ، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم وتركوا فيه طاعة الشيطان .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «طَيْفٌ » فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة : طائِفٌ على مثال فاعل ، وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين : «طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ » .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين الطائف والطيف . قال بعض البصريين : الطائف والطيف سواء ، وهو ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك . قال : ويجوز أن يكون الطيف مخففا عن طيّف مثل ميّت ومَيْت . وقال بعض الكوفيين : الطائف : ما طاف بك من وسوسة الشيطان ، وأما الطيف : فإنما هو من اللمم والممس . وقال آخر منهم : الطيف : اللمم ، والطائف : كلّ شيء طاف بالإنسان . وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : الطيف : الوسوسة .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ : طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ لأن أهل التأويل تأوّلوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به . وإذا كان ذلك معناه كان معلوما إذ كان الطيف إنما هو مصدر من قول القائل : طاف يطيف ، أن ذلك خبر من الله عما يمسّ الذين اتقوا من الشيطان ، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه ، وذلك كالغضب والوسوسة . وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزله عن طاعة ربه أو ليوسوس له ، والوسوسة والاستزلال هو الطائف من الشيطان ، وأما الطيف فإنما هو الخيال ، وهو مصدر من طاف يطيف ، ويقول : لم أسمع في ذلك طاف يَطيف ، ويتأوّله بأنه بمعنى الميت وهو من الواو . وحكى البصريون وبعض الكوفيين سماعا من العرب : طاف يطيف ، وطفت أطيف ، وأنشدوا في ذلك :
أنّى ألَمّ بِكَ الخَيالُ يَطِيفُ ***ومَطافُه لَكَ ذِكْرَةٌ وَشُعُوفُ
وأما أهل التأويل ، فإنهم اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : ذلك الطائف هو الغضب . ذكر من قال ذلك .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد : إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ قال : الطيف : الغضب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله : «إذَا مَسهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ » قال : هو الغضب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : الغضب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إذَا مسّهُمْ طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا قال : هو الغضب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ قال : الغضب .
وقال آخرون : هو اللّمة والزلة من الشيطان . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا الطائف : اللمة من الشيطان . فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ يقول : نزغ من الشيطان . تَذَكّرُوا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : إنّ الّذِينَ اتّقَوْا إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا يقول : إذا زلوا تابوا . .
قال أبو جعفر : وهذان التأويلان متقاربا المعنى ، لأن الغضب من استزلال الشيطان . واللمة من الخطيئة أيضا منه ، وكان ذلك من طائف الشيطان . وإذ كان ذلك كذلك ، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى ، بل الصواب أن يعُمّ كما عمه جلّ ثناؤه ، فيقال : إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان ما كان ذلك العارض ، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره .
وأما قوله : فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ فإنه يعني : فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه ، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ يقول : إذا هم منتهون عن المعصية ، آخذون بأمر الله ، عاصون للشيطان .
{ اتقوا } هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم ، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده ، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «طائف » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «طيّف » ، وقرأ سعيد بن جبير «طيْف » ، واللفظة إما من طاف يطوف وإما من طاف يطوف وإما من طاف يطيف بفتح الياء ، وهي ثابتة عن العرب ، وأنشد أبو عبيدة في ذلك :
أنى المَّ بك الخيال يطيفُ*** ومطافه لك ذكرة وشعوف
ف «طائف » اسم فاعل كقائل من قال يقول وكبائع من باع يبيع و «طيّف » اسم فاعل أيضاً كميت من مات يموت أو كبيع ولين من باع يبيع ولان يلين و «طيّف » يكون مخففاً أيضاً من طيف كميت من ميت ، وإذا قدرنا اللفظة من طاف يطيف فطيف مصدر ، وإلى هذا مال أبو علي الفارسي وجعل الطائف كالخاطر والطيف كالخطرة ، قال الكسائي : الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان .
قال القاضي أبو محمد : وكيف هذا وقد قال الأعشى : [ الطويل ]
وتصبح عن غب السرى وكأنّما*** ألمّ بها من طائف الجن أولق
ومعنى الآية : إذا مسهم غضب وزين الشيطان معه ما لا ينبغي ، وقوله { تذكروا } إشارة إلى الاستعاذة المأمور بها قبل ، وإلى ما لله عز وجل من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرض الشيطان فيها ، وقرأ ابن الزبير «من الشيطان تأملوا فإذا هم » ، وفي مصحف أبي بن كعب «إذا طاف من الشيطان طائف تأملوا » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الغضب جند من جند الجن ، أما ترون حمرة العين وانتفاخ العروق ؟ فإذا كان ذلك فالأرض الأرض ، وقوله { مبصرون } من البصيرة أي فإذا هم قد تبينوا الحق ومالوا إليه .
هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان ، فتتنزل جملة : { إِنَّ الذين اتقوا } إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا أحسّ بنزغ الشيطان ، ولذلك افتتحت ب { إن } التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار ، كما افتتحت بها سابقتها في قوله : { أنه سميع عليم } [ الأعراف : 200 ] فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان ، والثانية : أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكراً الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظِ لكيده ، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين ، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان : لأنه متق ، ولأنه يبتهج بمتابعه سيرة سلفه من المتقين كما قال تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده } [ الأنعام : 90 ] .
وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل : لأن التذكر أعم من الاستعاذة .
ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة ، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من الشيطان ، وكثر ذلك في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم الأمر بالتذكر ، كما ادخر لنا يوم الجمعة .
و ( التقوى ) تقدم بيانها عند قوله تعالى : { هدى للمتقين } في سورة البقرة ( 2 ) ، والمراد بهم : الرسل وصالحو أممهم ، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة .
و ( المس ) حقيقته وضع اليد على الجسم ، واستعير للإصابة أو لأدْنى الإصابة .
والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له ، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان ، اطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شُبه ذلك الخاطر في مبدأ جولانه في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر .
وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت ، العائِذَ برب البيت ، المستأنسَ للقرى يستانس ، فيطوف بالبيت ، ويستأذن ، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذرِ حين أنشد أبياته التي أولها :
وتقدمت في أول سورة الفاتحة ، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على المملوك ، فلذلك قُدّم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضاً ، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى :
وتُصبح عن غب السُّرَي وكأنّها *** ألمَّ بها من طائِف الجن أَوْلَقُ
وقال تعالى : { فطاف عليها طائفٌ من ربك وهم نائمون } [ القلم : 19 ] .
وقراءة الجمهور : { طائف } ، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف ، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب : ( طيْف ) بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء ، والطيْف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر .
وفي كلمة ( إذا ) من قوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } مع التعبير بفعل { مَسهم } الدال على إصابة غير مكينة ، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان ، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس ، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزماً ثم عملاً .
والتعريف في { الشيطان } يجوز أن يكون تعريف الجنس : أي من الشياطين ويجوز أن يكون تعريف العهد والمراد به إبليس باعتبار أن ما يوسوس به جنده وأتباعُه ، هو صادر عن أمره وسلطانه .
والتذكر استحضار المعلوم السابق ، والمراد : تذكروا أوامر الله ووصاياه ، كقوله : { ذَكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة لمن أمر بها من الأمم الماضية ، إن كانت مشروعة لهم ، ومن هذه الأمة ، فالاقتداءُ بالذين اتقوا يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات .
والفاء لتفريع الإبصار على التذكر . وأكد معنى ( فاء ) التعقيب ب ( إذا ) الفجائية الدالة على حصول مضمون جملتها دَفعة بدون تريث ، أي تذكروا تذكر ذويَ عزم فلم تتريث نفوسهم أن تَبين لها الحقُ الوازع عن العمل بالخواطر الشيطانية فابتعدت عنها ، وتمسكت بالحق ، وعملت بما تذكرت ، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم .
وقد استعير الإبصار للاهتداء كما يستعار ضده العمى للضلال ، أي : فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان ، لأن الشيطان أراد إضلالهم فسلموا من ذلك ووصفُهم باسم الفاعل دون الفعل للدلالة على أن الإبصار ثابت لهم من قبلُ ، وليس شيئاً متجدداً ، ولذلك أخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ الّذِينَ اتّقَوْا" الله من خلقه، فخافوا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه "إذَا مَسّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ تَذَكّرُوا "يقول: إذا ألمّ بهم طيف من الشيطان من غضب أو غيره مما يصدّ عن واجب حقّ الله عليهم، تذكّروا عقاب الله وثوابه ووعده ووعيده، وأبصروا الحقّ فعملوا به، وانتهوا إلى طاعة الله فيما فرض عليهم وتركوا فيه طاعة الشيطان.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: «طَيْفٌ» فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والكوفة: طائِفٌ على مثال فاعل، وقرأه بعض المكيين والبصريين والكوفيين: «طَيْفٌ مِنَ الشّيْطانِ».
واختلف أهل العلم بكلام العرب في فرق ما بين الطائف والطيف. قال بعض البصريين: الطائف والطيف سواء، وهو ما كان كالخيال والشيء يلمّ بك... وقال بعض الكوفيين: الطائف: ما طاف بك من وسوسة الشيطان، وأما الطيف: فإنما هو من اللمم والمس... وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأ: "طائِفٌ مِنَ الشّيْطانِ" لأن أهل التأويل تأوّلوا ذلك بمعنى الغضب والزلة تكون من المطيف به. وإذا كان ذلك معناه كان معلوما إذ كان الطيف إنما هو مصدر من قول القائل: طاف يطيف، أن ذلك خبر من الله عما يمسّ الذين اتقوا من الشيطان، وإنما يمسهم ما طاف بهم من أسبابه، وذلك كالغضب والوسوسة. وإنما يطوف الشيطان بابن آدم ليستزله عن طاعة ربه أو ليوسوس له، والوسوسة والاستزلال هو الطائف من الشيطان، وأما الطيف فإنما هو الخيال... وأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: ذلك الطائف هو الغضب... وقال آخرون: هو اللّمة والزلة من الشيطان... وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن الغضب من استزلال الشيطان، واللمة من الخطيئة أيضا منه، وكان ذلك من طائف الشيطان. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لخصوص معنى منه دون معنى، بل الصواب أن يعُمّ كما عمه جلّ ثناؤه، فيقال: إن الذين اتقوا إذا عرض لهم عارض من أسباب الشيطان ما كان ذلك العارض، تذكروا أمر الله وانتهوا إلى أمره.
وأما قوله: "فإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ" فإنه يعني: فإذا هم مبصرون هدى الله وبيانه وطاعته فيه، فمنتهون عما دعاهم إليه طائف الشيطان...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنما يمس المتقين طيفُ الشيطانِ في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقرَبُ قلباً في حال شهوده الله؛ لأنه ينخنس عند ذلك. ولكن لكل صارمٍ نبوة، ولكلِّ عالمٍ هفوة، ولكل عابدٍ شدة، ولكل قاصدٍ فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارفٍ حجبة، قال صلى الله عليه وسلم:"إنه ليُغَان على قلبي..." أخبر أنه يعتريه ما يعتري غيرَه، وقال صلى الله عليه و سلم: "الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي"، فأخبر أنَّ الأمة -وإنْ جَلَّت رُتْبَتَهُم لا يتخلصون عن حِدَّةٍ تعتريهم في بعض أحوالهم فَتُخْرِجُهم عن دوام الحِلْم...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}. 465- فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر، وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر... [الإحياء: 3/14].
- {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا} أي رجعوا إلى نور العلم، {فإذا هم مبصرون} أي ينكشف لهم الإشكال، فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى، فيكثر فيه غلطه ويتعجل هلاكه وهو لا يشعر. [نفسه: 3/33].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... هذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم: إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته {تَذَكَّرُواْ} ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا السداد ودفعوا ما وسوس به إليهم ولم يتبعوه أنفسهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اتقوا} هنا عامة في اتقاء الشرك واتقاء المعاصي بدليل أن اللفظة إنما جاءت في مدح لهم، فلا وجه لقصرها على اتقاء الشرك وحده، وأيضاً فالمتقي العائذ قد يمسه طائف من الشيطان إذ ليست العصمة إلا للأنبياء عليهم السلام...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قوله تعالى: {تَذَكَّرُواْ} فيه ثلاثة أقوال: أحدها: تذكروا الله إذا هموا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد. والثاني: تفكروا فيما أوضح الله لهم من الحجة، قاله الزجاج. والثالث: تذكروا غضب الله؛ والمعنى: إذا جرأهم الشيطان على ما لا يحل، تذكروا غضب الله، فأمسكوا، فإذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر...
اعلم أنه تعالى بين في الآية الأولى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ينزغه الشيطان وبين أن علاج هذه الحالة الاستعاذة بالله، ثم بين في هذه الآية أن حال المتقين يزيد على حال الرسول في هذا الباب، لأن الرسول لا يحصل له من الشيطان إلا النزغ الذي هو كالابتداء في الوسوسة، وجوز في المتقين ما يزيد عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطان، وهذا المس يكون لا محالة أبلغ من النزغ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
النزغ من الشيطان أحفّ من مس الطائف من الشيطان لأن النزغ أدنى حركة والمس الإصابة والطائف ما يطوف به ويدور عليه فهو أبلغ لا محالة فحال المتقين تزيد في ذلك على حال الرسول، وانظر لحسن هذا البيان حيث جاء الكلام للرسول كان الشرط بلفظ إن المحتملة للوقوع ولعدمه، وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقيق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمسّ واقع لا محالة أو يرجح وقوعه وهو إلصاق البشرة وهو هنا استعارة وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبريّة في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدلّ على تمكن مسّ الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى وما نهى عنه، وبنفس التذكر حصل إبصارهم فاجأهم إبصار الحقّ والسداد فاتبعوه وطروا عنهم مسّ الشيطان الطائف،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إذا مسهم طائف} وهو إشارة إلى أن الشيطان دائر حولهم لا يفارقهم، فتارة يؤثر فيهم طوافه فيكون قد مسهم مساً هو أكبر من النزغ لكونه أطاف بهم من جميع الجوانب، وتارة لا يؤثر {من الشيطان} أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة {تذكروا} أي كلفوا أنفسهم ذكر الله بجميع ما ينفعهم في ذلك إقداماً وإحجاماً. ولما كانوا بإسراع التذكر كأنهم لم يمسهم شيء من أمره، أشار إلى ذلك بالجملة الإسمية مؤكداً لسرعة البصر بإذا الفجائية: {فإذا هم} أي بنور ضمائرهم {مبصرون} أي ثابت إبصارهم فلا يتابعون الشيطان، فإن المتقي من يشتهي فينتهي، ويبصر فيقصر، وفي ذلك تنبيه على أن من تمادى مع الشيطان عمي لأنه ظالم، والظالم هو من يكون كأنه يمشي في الظلام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى وجه سلامة من يستعيذ من وسوسة الشيطان لإزالة جهل من لم يعلمه أو من لم يفقهه فقال:
{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}...
ومعنى الآية "أن الذين اتقوا "وهم خيار المؤمنين الذين وصفوا في أول سورة البقرة "إذا مسهم" أي ألم أو اتصل بهم طيف أو "طائف من الشيطان" ليحملهم بوسوسته على المعصية، أو ينزغ بينهم لإيقاع البغضاء والتفرقة. "تذكروا" أن هذا من عدوهم الشيطان وإغوائه، وما أمر الله تعالى به في هذه الحال من الاستعاذة به والالتجاء إليه في الحفظ منه، وقال بعضهم تذكروا ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، وقال آخرون: تذكروا عقاب الله لمن أطاع الشيطان وعصى الرحمان، وجزيل ثوابه لمن عصى الشيطان وأطاع الرحمان، وقال بعضهم: تذكروا وعده ووعيده- ومآل الأقوال كلها واحد وهو يعمها- كما تفيده قاعدة حذف المفعول- "فإذا هم مبصرون" أي فإذا هم أولوا بصيرة وعلم يربأ بأنفسهم أن تطيع الشيطان، فهو إنما تأخذ وسوسته الغافلين عن أنفسهم لا يحاسبونها على خواطرها، الغافلين عن ربهم لا يراقبونه في أهوائها وأعمالها، ولا شيء أقوى على طرد الشيطان من ذكر الله تعالى بالقلب، ومراقبته في السر والجهر، فذكر الله تعالى بأي نوع من أنواعه يقوي في النفس حب الحق ودواعي الخير، ويضعف فيها الميل إلى الباطل والشر، حتى لا يكون للشيطان مدخل إليها، فهو إنما يزين لها الباطل والشر بقدر استعدادها لأي نوع منهما. فإن وجد بالغفلة مدخلا إلى قلب المؤمن المتقي لا يلبث أن يشعر به لأنه غريب عن نفسه، ومتى شعر ذكر فأبصر فخنس الشيطان وابتعد عنه، وإن أصاب منه غرة قبل تذكره تاب من قريب.
فمثل المؤمن المتقي في عدم تمكن الشيطان من إغوائه وإن تمكن من مسه كمثل المرء الصحيح المزاج القوي الجسم النظيف الثوب والبدن والمكان لا تجد جنة الأمراض المفسدة للصحة استعدادا لإفساد مزاجه وإصابته بالأمراض، فهي تظل بعيدة عنه. فإن مسه شيء منها بدخوله في معدته أو دمه فتكت بها نسم الصحة والعافية فحالت دون فتكها به- وهو ما يسمى في عرف الطب المناعة- وكذلك يكون قوي الروح بالإيمان والتقوى غير مستعد لتأثير الشيطان في نفسه، فهو يطوف بها يراقب غفلتها وعروض بعض الأهواء النفسية لها من شهوة أو غضب أو داعية حسد أو انتقام، فمتى عرضت افترصها، فلابس النفس وقواها فيها، كما تلابس الحشرات القذرة أو جنة الأمراض الخفية ما يعرض من القذر للنظيف والضعف للقوي، فإذا أهملها بالغفلة عنها فعلت فعلها، وإذا تداركها نجا من ضررها، ويحسن أن يعبر عن هذا بالحصانة، فيقال مناعة جسدية وحصانة نفسية أو روحية.
ذكرنا في الكلام على الشيطان من أوائل سورة البقرة أن الإنسان يشعر بقدر علمه بتنازع دواعي الخير والشر والحق والباطل في نفسه، وأن لداعية الحق والخير ملكا يقويها، ولداعية الباطل والشر شيطانا يقويها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بين هذا بقوله: (أن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان) ثم قرأ {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} 67 [البقرة: 268] رواه الترمذي والنسائي في الكبير وابن حبان عن ابن مسعود وعلم عليه السيوطي في الجامع الصغير بالصحة، ولكن الترمذي قال حسن غريب لا نعلمه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطا ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب -تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب اللّه عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر اللّه تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئا حسيرا، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن اختتام الآية بقوله: (فإذا هم مبصرون) ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك.. إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه.. تلك الوشيجة التي تصل القلوب بالله وتوقظها من الغفلة عن هداه.. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم؛ وتكشفت الغشاوة عن عيونهم: (فإذا هم مبصرون).. إن مس الشيطان عمى، وإن تذكر الله إبصار.. إن مس الشيطان ظلمة، وإن الاتجاه إلى الله نور.. إن مس الشيطان تجلوه التقوى، فما للشيطان على المتقين من سلطان..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...إن المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا تتمكن منه نوازغ الشيطان فيقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ} ومعنى {اتقوا} جعلوا وقاية لأنفسهم من خوف الله والحرص على طاعته، بسبب ذلك {إذا مسهم}، أي إذا أصابهم إصابة تمس إحساسهم ومشاعرهم {طائف من الشيطان}
وفي قراءة (طيف من الشيطان) أي غضب، أو خيال يمس الوجدان من الشيطان بأن همز الشيطان في نفوسهم فسرعان ما يستيقظ وجدانهم العامر بتقوى الله تعالى فيتذكرون الله ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه سبحانه، فإذا غشاوة الشيطان تزول عنهم، ويرجعون إلى ربهم، وكما قال تعالى: {فإذا هم مبصرون}.
والتعبير بالموصول يفيد أن الباعث على ذكر الله تعالى، وحضوره في القلب واستيلائه على الإحساس والشعور بالواجب أنشأته التقوى.
والطيف والطائف معناه الغضب، ومنهم من فسره بإمالة الشيطان، ومنهم من فسره بالهم والذنب، ومنهم من فسره بالذنب.
وإن الطائف يحتمل كل ذلك، وربما يشملا جميعا، وهي من الشيطان.
وقد يكون طائف من الرحمن كما في قصة أصحاب الجنة التي قال الله تعالى فيها: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين (17) ولا يستثنون (18) فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون (19) فأصبحت كالصريم (20)} (القلم).
فالطائف يطوف من الشيطان بالغضب أو الذنب، أو الهم بالذنب، أو نحو ذلك.
ومعنى النص الكريم أن الذين اتقوا ربهم إذا هموا بالشر أو أرادوه سرعان ما يرجعون فيتوبون فيقبل الله تعالى منهم. وينطبق عليهم قول اله تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} (النساء 17). وإن أهل التقوى لا يكونون بعيدين من ربهم، بل هم على مقربة منه، قلوبهم عامرة بذكره، فإن أصابتهم غمزة، فغفلوا، فسرعان ما ينتبهون، وسرعان ما يبصرون يثوبون.
وقال تعالى في التعبير عن تنبيههم للمعصية عندما تساورهم أسبابها: {فإذا هم مبصرون} عبر أولا بالمفاجأة للناظر لحالهم، وطائف الشر يطوف بهم، فهو يفجأ بقطع السير إلى الرذيلة، والمفاجأة بأنهم يبصرون، والإبصار هنا هو يقظة الضمير وقوة الوجدان وسيطرة النفس على أهوائها، وشبهت هذه الحال بالبصر الدائم المستمر، الحارس على النفس أن تنفعل لداعي الشيطان، وعبر بقوله: {هم مبصرون} بالتعبير بالجملة الاسمية، للإشارة إلى دوام البصر بالحقائق وإدراكها، وتغلبها على الأهواء والمنازع.
هذه هي النفس من داخلها تدفع شرورها وتعالج أسقامها، وإن الذين يجعلونها في معركة مستمرة وهم الذين يقاومون الفطرة، حتى إبصار الضمائر المستيقظة، هم إخوان السوء، وعشراء الشر؛ ولذا قال – سبحانه وتعالى – بعد ذلك: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202)}.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} وهذه حقيقة إنسانية إيمانية في حركة النفس في الموقف الداخلي والخارجي، فإن التقوى لا تمنع الأفكار السلبية الانفعالية من الطواف حول المشاعر والمواقف لتفسدها ولتوجهها إلى الاتجاهات الخاطئة، لأن ذلك هو شأن الطبيعة الإنسانية التي تتأثر بكل الأوضاع المحيطة بها، في ما تتحرك به غرائزها في حركة ذاتية عفوية، ولكن دور التقوى هو أن يمنع استقرار تلك الأفكار في داخل النفس، أو تحوّيلها إلى موقفٍ عمليٍّ منحرف، ولهذا فإنها تقف أمام كل تلك الأفكار والتهاويل والمشاعر الشيطانية التي تطوف بالإنسان، لتجد زاويةً تختبئ فيها، من أجل إتمام عملية الإغواء والإضلال، فتعمل على طردها بإعادة الوعي الإنساني إلى الله، في ما يمثله ذلك من انفتاحٍ على كل آفاق الخير والصلاح، وذلك عندما يتذكر الإنسان ربّه، فتزول الغشاوة الشيطانية عن بصره وبصيرته، فيبصر درب الحق من جديد...