جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (42)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىَ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَبُنَيّ ارْكَبَ مّعَنَا وَلاَ تَكُن مّعَ الْكَافِرِينَ } .

يعني تعالى ذكره بقوله : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ والفلك تجري بنوح ومن معه فيها فِي مَوْجٍ كالجبالِ وَنادَى نُوحٌ ابْنَهُ يام ، وكانَ فِي مَعْزِلٍ عنه لم يركب معه الفلك : يا بُنَيّ ارْكَبْ مَعَنا الفلك وَلا تَكُنْ مَعَ الكافِرِينَ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (42)

وقوله تعالى : { وهي تجري بهم } الآية ، روي أن السماء أمطرت بأجمعها حتى لم يكن في الهواء جانب لا مطر فيه ، وتفجّرت الأرض كلها بالنبع ، فهكذا كان التقاء الماء ، وروي أن الماء علا على الجبال وأعلى الأرض أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشرة ذراعاً ؛ وأشار الزجاج وغيره إلى أن الماء انطبق : ماء الأرض وماء السماء فصار الكل كالبحر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وأين كان الموج كالجبال على هذا ؟ وكيف استقامت حياة من في السفينة على هذا ؟ .

وقرأت فرقة : «ابنه » على إضافة الابن إلى نوح ، وهذا قول من يقول : هو ابنه لصلبه ، وقد قال قوم : إنه ابن قريب له ودعاه بالنبوة حناناً منه وتلطفاً ، وقرأ ابن عباس «ابنهْ » بسكون الهاء ، وهذا على لغة لأزد السراة{[6349]} ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

. . . . . . *** ومطواي مشتاقان لهْ أرقانِ{[6350]}

وقرأ السدي «ابناه » قال أبو الفتح : ذلك على النداء وذهبت فرقة إلى أن ذلك على جهة الندبة محكية ، وقرأ عروة بن الزبير أيضاً وأبو جعفر وجعفر بن محمد «ابنهَ » على تقدير ابنها ، فحذف الألف تخفيفاً وهي لغة ومنها قول الشاعر : [ البسيط ]

أما تقود به شاة فتأكلها*** أو أن تبيعه في نقض الأراكيب{[6351]}

وأنشد ابن الأعرابي على هذا :

فلست بمدرك ما فات مني*** بلهف ولا بليت ولا لواني{[6352]}

يريد بلهفا .

قال القاضي أبو محمد : وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف وليس كما قال .

وقرأ وكيع بن الجراح : «ونادى نوح ابنه » بضم التنوين ، قال أبو حاتم : وهي لغة سوء لا تعرف .

وقوله : { في معزل } أي في ناحية ، فيمكن أن يريد في معزل في الدين ، ويمكن أن يريد في معزل في بعده عن السفينة ، واللفظ يعمهما : وقال مكي في المشكل : ومن قال : «معزِل » - بكسر الزاي - أراد الموضع ، ومن قال : «معزَل » - بفتحها - أراد المصدر : فلم يصرح بأنها قراءة ولكن يقتضي ذلك لفظه .

وقرأ السبعة «يابنيِّ » بكسر الياء المشددة ، وهي ثلاث ياءات : أولاها ياء التصغير ، وحقها السكون ؛ والثانية لام الفعل ، وحقها أن تكسر بحسب ياء الإضافة إذ ما قبل ياء الإضافة مكسور : والثالثة : ياء الإضافة فحذفت ياء الإضافة إما لسكونها وسكون الراء{[6353]} ، وإما إذ هي بمثابة التنوين في الإعلام وهو يحذف في النداء فكذلك ياء الإضافة والحذف فيها كثير في كلام العرب ، تقول : يا غلام ، ويا عبيد ، وتبقى الكسرة دالة ، ثم أدغمت الياء الساكنة في الياء المكسورة ، وقد روى أبو بكر وحفص عن عاصم أيضاً «يابنيَّ » بفتح الياء المشددة ، وذكر أبو حاتم : أن المفضل رواها عن عاصم ، ولذلك وجهان : أحدهما : أن يبدل من ياء الإضافة ألفاً وهي لغة مشهورة تقول : يا غلاما ، ويا عينا ، فانفتحت الياء قبل الألف ثم حذفت الألف استخفافاً{[6354]} ولسكونها وسكون الراء من قوله { اركب } .

والوجه الثاني : أن الياءات لما اجتمعت استثقل اجتماع المماثلة{[6355]} فخفف ذلك الاستثقال بالفتح إذ هو أخف الحركات ، هذا مذهب سيبويه ، وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم : «وحواري الزبير »{[6356]} .

وروي عن ابن كثير أنه قرأ في سورة لقمان : { يا بني لا تشرك بالله }{[6357]} بحذف ياء الإضافة ويسكن الياء خفيفة ، وقرأ الثانية { يا بني إنها }{[6358]} كقراءة الجماعة وقرأ الثالثة : { يا بني أقم }{[6359]} ساكنة كالأولى .

وقوله : { ولا تكن مع الكافرين } يحتمل أن يكون نهياً محضاً مع علمه أنه كافر ، ويحتمل أن يكون خفي عليه كفره فناداه ألا يبقى - وهو مؤمن - مع الكفرة فيهلك بهلاكهم ، والأول أبين .


[6349]:- جاء في "الصحاح" :أزد: أبو حي من اليمن، وهو أزد بن غوث... بن سبأ، وهو بالسين أفصح، يقال: أزد شنوءة، وأزد عُمان، وأزد السّراة، قال الشاعر النجاشي قيس بن عمرو-: وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل بها ريب من الحدثان فأما التي صحت فأزد شنــوءة وأما التي شلّت فأزد عمـان
[6350]:- هذا عجز بيت، نقل صاحب اللسان عن ابن بري أنه لرجل من أزد السّراة يصف برقا، ثم قال: وذكر الأصبهاني أنه ليعلى بن الأحلول، والبيت بتمامه: فظلت لدى البيت العتيق أخيله ومطواي مشتاقان له أرقان ويروى "البيت الحرام"، ويروى الشطر الأخير: "ومطواي من صدق له أرقان"، ومعنى أخيله: أنظر إلى مخيلته، والهاء عائدة على البرق في بيت قبله وهو: أرقت لبرق دونه شروان يمان، وأهوى البرق كل يمان ومطواي: مثنى مطو، ومطو الرجل: صديقه وصاحبه ونظيره، وقيل: في السفر خاصة.(خزانة الأدب، والخصائص).
[6351]:- أراد" تعبيها" فحذف الألف تشبيها لها بالواو والياء لما بينهما وبينها من النسبة، وهذا شاذ- قال ذلك في "اللسان"، والأراكيب: جمع أركوب بضم الهمزة، وهو أكثر من الرّكب، والرّكب في الأصل هو راكب الإبل خاصة، ثم اتسع فأطلق على كل من ركب دابة، قالوا وأنشد ابن جني: أعلقت بالذئب حبلا ثم قلت له الحق بأهلك واسلم أيها الذيـب إمـــا تقول به شاة فتأكلها أو أن تبيعه في بعض الأراكيب هكذا باللام في "تقول" ورفع "شاة" على رواية اللسان. قال في القرطبي: "فأما قراءة: {ونادى نوح ابنه وكان} فقراءة شاذة، وزعم أبو حاتم أنها تجوز على أنه يريد" ابنها" فحذف الألف، كما تقول: "ابنه" فتحذف الواو، وقال النحاس: وهذا الذي قاله أبو حاتم لا يجوز على مذهب سيبويه، لأن الألف خفيفة فلا يجوز حذفها، والواو ثقيلة يجوز حذفها".اهـ.
[6352]:- قال في "اللسان": أنشده الأخفش، وابن الأعرابي، وغيرهما. واللهف واللّهف: الأسى والحزن والغيظ على شيء يفوتك بعد ما تشرف عليه. وأراد الشاعر: لا أدرك ما فاتني بأن أقول: "والهفا"، فحذف الألف.
[6353]:- يريد الراء في قوله تعالى بعدها: [اركب].
[6354]:- أي: طلبا للخفة، يقال: استخفّه" طلب خفته.
[6355]:- يريد: اجتماع الحروف التي يماثل بعضها بعضا.
[6356]:- رواه البخاري في الجهاد، وفي فضائل الصحابة، وفي المغازي، ورواه مسلم في فضائل الصحابة، وابن ماجه في المقدمة، والإمام أحمد في مواطن كثيرة في مسنده، ولفظه كما في المسند عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل نبي حواري، وحواري الزبير).
[6357]:- من الآية (13).
[6358]:- من الآية (16).
[6359]:- من الآية (17).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (42)

{ وهي تجري بهم في موج كالجبال }

جملة معترضة دعا إلى اعتراضها هنا ذكر ( مجراها ) إتماماً للفائدة وصفاً لعظم اليوم وعجيب صنع الله تعالى في تيْسير نجاتهم .

وقدم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوّي الحكم وتحقيقه .

وعدل عن الفعل الماضي إلى المضارع لاستحضار الحالة مثل قوله تعالى : { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } [ فاطر : 9 ] .

والموج : ما يرتفع من الماء على سطحه عند اضطرابه ، وتشبيهه بالجبال في ضخامته . وذلك إما لكثرة الرياح التي تعلو الماء وإما لدفع دفقات الماء الواردة من السيول والتقاء الأودية الماءَ السابقَ لها ، فإن حادث الطوفان ما كان إلاّ عن مثل زلازل تفجرت بها مياه الأرض وأمطار جمّة تلتقي سيولها مع مياه العيون فتختلط وتجتمع وتصب في الماء الذي كان قبلها حتى عم الماء جميع الأرض التي أراد الله إغراق أهلها ، كما سيأتي .

{ ونادى نوح ابنه وكان بمعزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين }

عطفت جملة { ونادى } على أعلق الجمل بها اتّصالاً وهي { وقال اركبوا فيها } [ هود : 41 ] لأن نداءه ابنه كان قبل جريان السفينة في موج كالجبال ، إذ يتعذر إيقافها بعد جريها لأن الراكبين كلّهم كانوا مستقرين في جوف السفينة .

وابن نوح هذا هو ابن رابع في أبنائه من زَوج ثانية لنوح كان اسمها ( وَاعلة ) غرقت ، وأنّها المذكورة في آخر سورة التحريم . قيل كان اسم ابنه ( ياماً ) وقيل اسمه ( كنعان ) وهو غير كنعان بن حام جد الكنعانيين . وقد أهملت التوراة الموجودة الآن ذكر هذا الابن وقضية غرقه وهل كان ذا زوجة أو كان عزباً .

وجملة { وكان في معزل } حال من { ابنه } . والمعْزل : مكان العزلة أي الانفراد ، أي في معزل عن المؤمنين إمّا لأنه كان لم يؤمن بنوح عليه السلام فلم يصدق بوقوع الطوفان ، وإما لأنّه ارتد فأنكر وقوع الطوفان فكفر بذلك لتكذيبه الرسول .

وجملة { يا بنيّ اركب معنَا } بيان لجملة { نادى } وهي إرشاد له ورفق به .

وأما جملة { ولا تكن مع الكافرين } فهي معطوفة على جملة { اركب معنا } لإعلامه بأنّ إعراضه عن الركوب يجعله في صف الكفار إذ لا يكون إعراضه عن الركوب إلاّ أثراً لتكذيبه بوقوع الطوفان . فقول نوح عليه السّلام له { اركب معنا } كناية عن دعوته إلى الإيمان بطريقة العرض والتحذير . وقد زاد ابنَه دلالة على عدم تصديقه بالطوفان قولُه متهكماً { سَآوي إلى جبل يعصمني من الماء } .

و ( بنيّ ) تصغير ( ابن ) مضافاً إلى ياء المتكلم . وتصغيره هنا تصغير شفقة بحيث يجعل كالصغير في كونه محل الرحمة والشفقة . فأصله بُنَيْو ، لأنّ أصل ابن بَنْو ، فلما حذفوا منه الواو لثقلها في آخر كلمة ثلاثية نقصَ عن ثلاثة أحرف فعوّضوه همزة وصل في أوله ، ومهما عادتْ له الواو المحذوفة لزوال داعي الحذف طرحت همزة الوصل ، ثم لمّا أريد إضافة المصغّر إلى ياء المتكلم لزم كسر الواو ليصير بُنَيْوِيّ ، فلما وقعت الواو بين عدوتيها الياءين قلبت ياء وأدغمت في ياء التصغير فصار بنَيّي بياءين في آخره أولاهما مشدّدة ، ولما كان المنادى المضاف إلى ياء المتكلم يجوز حذف ياء المتكلم منه وإبْقاء الكسرة صار { بنَيّ } بكسر الياء مشدّدة في قراءة الجمهور .

وقرأه عاصم { بنيّ } بفتح ياء المتكلم المضاف إليها لأنها يجوز فتحها في النداء ، أصله يَا بنَيّيَ بياءين أولاهما مكسورة مشدّدة وهي ياء التصغير مع لام الكلمة التي أصلها الواو ثم اتصلت بها ياء المتكلم وحذفت الياء الأصلية .