جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (22)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَخَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقّ وَلِتُجْزَىَ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .

يقول تعالى ذكره : وَخَلَق اللّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ بالحَقّ للعدل والحقّ ، لا لما حَسِب هؤلاء الجاهلون بالله ، من أنه يجعل من اجترح السيئات ، فعصاه وخالف أمره ، كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ، في المحيا والممات ، إذ كان ذلك من فعل غير أهل العدل والإنصاف ، يقول جلّ ثناؤه : فلم يخلق الله السموات والأرض للظلم والجور ، ولكنا خلقناهما للحقّ والعدل . ومن الحقّ أن نخالف بين حكم المسيء والمحسن ، في العاجل والاجل .

وقوله : وَلِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ، يقول تعالى ذكره : وليثيب الله كلّ عامل بما عمل من عمل خلق السموات والأرض ، المحسن بالإحسان ، والمسيء بما هو أهله ، لا لنبخس المحسن ثواب إحسانه ، ونحمل عليه جرم غيره ، فنعاقبه ، أو نجعل للمسيء ثواب إحسان غيره فنكرمه ، ولكن لنجزي كلاً بما كسبت يداه ، وهم لا يُظلمون جزاء أعمالهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (22)

{ وخلق الله السماوات والأرض بالحق } معناه : بأن خلقها حق واجب متأكد في نفسه لما فيه من فيض الخيرات ولتدل عليه ولتكون صنعة حاكمة لصانع . وقيل لبعض الحكماء : لم خلق الله السماوات والأرض ؟ قال ليظهر جوده . واللام في قوله : { لتجزى } يظهر أن تكون لام كي ، فكأن الجزاء من أسباب خلق السماوات ، ويحتمل أن تكون لام الصيرورة أي صار الأمر فيها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون لأن يجازى كل أحد بعلمه وبما اكتسب من خير أو شر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَلِتُجۡزَىٰ كُلُّ نَفۡسِۭ بِمَا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ} (22)

الجملة معترضة والواو اعتراضية وهو اعتراض بين الكلام المتقدم وبين ما فرع عليه من قوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] هو كالدليل على انتفاء أن يكون الذين اجترحوا السيئات الذين هم في بحبوحة عيش مدة حياتهم أن يكونوا في نعيم بعد مماتهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات مدة حياتهم فكان جزاؤهم النعيم بعد مماتهم ، أي بعد حياتهم الثانية بأنَّ خلق السماواتِ والأرض بالعدل يستدعي التفاوت بين المسيء والمحسن ، والانتصاف للمعتدَى عليه من المعتدي .

ووجه الاستدلال أن خلق السماوات والأرض تبين كونه في تمام الإتقان والنظام بحيث إن دلائل إرادة العدل في تصاريفها قائمة ، وما أودعه الخالق في المخلوقات من القوى مناسب لتحصيل ذلك النظام الذي فيه صلاحهم فإذا استعملوها في الإفساد والإساءة كان من إتمام إقامة النظام أن يُعاقبوا على تلك الإساءة والمشاهدُ أن المسيء كثير ما عكَف على إساءته حتى المماتِ ، فلو لم يكن الجزاء بعد الموت حصل اختلال في نظام خلق المخلوقات وخلقِ القوى الصادرِ عنها الإحسان والإساءة ، وهذا المعنى تكرر في آيات كثيرة وكلما ذكر شيء منه أتبع بذكر الجزاء ، وقد تقدم في سورة آل عمران ( 191 ) قوله : { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } وقوله في سورة الدخان ( 38 40 ) وما خلقْنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين .

والباء في قوله : { بالحق } للسببية أو للملابسة ، أي خلقاً للسبب الحق أو ملابساً للحق لا يتخلف الحق عن حال من أحواله .

والحق : اسم جامع لما شأنه أن يَحقّ ويثبت ، ومن شأن الحكمة والحكيم أن يقيمه ، ولذلك أشير بقوله : { وخلق الله } فإن اسم الجلالة جامع لصفات الكمال وتصرفات الحكمة .

وعطف { ولتجزى كل نفس بما كسبت } على { بالحق } لأن المعطوف عليه المجرور بالياء فيه معنى التعليل ، وهذا تفصيل بعد إجمال فإن الجزاء على الفعل بما يناسبه هو من الحق ، ولأن تعليل الخلق بعلة الجزاء من تفصيل معنى الحق وآثارِ كون الحق سبباً لخلق السماوات والأرض أو ملابساً لأحوال خلقهما ، فظهرت المناسبة بين الباء في المعطوف عليه واللام في المعطوف .

والباء في { بما كسبت } للتعويض . وما كسبته النفس لا تجزى به بل تجازَى بمثله وما يناسبه ، فالكلام على حذف مضاف ، أي بمثل ما كسبته . وهذه المماثلة مماثلة في النوع ، وأما تقدير تلك المماثلة فذلك موكول إلى الله تعالى ومراعًى فيه عظمة عالَم الجزاء في الخير والشر ومقدار تمرد المسيء وامتثال المحسن ، بخلاف الحدود والزواجر فإنها مقدرة بما يناسب عالم الدنيا من الضعف . ولهذا أعقبه بقوله : { وهم لا يظلمون } فضمير { وهم } عائد إلى { كل نفس } ، فإن ذلك الجزاء مما اقتضاه العدل الذي جُعل سبباً أو ملابساً لخلق السماوات والأرض وما فيهما ، فهو عدل ، فليس من الظلم في شيء فالمُجازَى غير مظلوم ، وبالجزاء أيضاً ينتفي أثر ظلم الظالم عن المظلوم إذ لو ترك الجزاء لاستمر المظلوم مظلوماً .