القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنّ رَبّي لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : وقال نوح : اركبوا في الفلك بسم الله مَجراها ومُرْساها . وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه ، وهو قوله : قُلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مْنهُمْ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ فحملهم نوح فيها وقال لهم : اركبوا فيها . فاستغني بدلالة قوله : وَقالَ ارْكَبُوا فِيها عن حمله إياهم فيها ، فترك ذكره .
واختلفت القراء في قراءة قوله : بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «بِسْمِ اللّهِ مُجْرَاها ومُرْساها » بضمّ الميم في الحرفين كليهما . وإذا قرىء كذلك كان من أجرى وأرسى ، وكان فيه وجهان من الإعراب : أحدهما الرفع بمعنى : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، فيكون المُجْرى والمُرْسَى مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله : بِسْمِ اللّهِ . والاَخر بالنصب ، بمعنى : بسم الله عند إجرائها وإرسائها ، أو وقت إجرائها وإرسائها ، فيكون قوله : «بسم الله » كلاما مكتفيا بنفسه ، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله : بسم الله ، ثم يكون المُجْرى والمُرسَى منصوبين على ما نصبت العرب قولهم الحمد لله سرارك وإهلالَك ، يعنون الهلال أوّله وآخره ، كأنهم قالوا : الحمد لله أوّل الهلال وآخره ، ومسموع منهم أيضا : الحمد لله ما إهلالُك إلى سرارك . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها بفتح الميم من «مَجْراها » ، وضمها من «مُرْساها » ، فجعلوا «مجراها » مصدرا من جري يجري مَجْرًى ، ومُرساها من أرسَى يُرْسِي إرساءً . وإذا قرىء ذلك كذلك كان في إعرابهما من الوجهين نحو الذي فيهما إذا قرئا : «مُجراها ومُرساها » بضم الميم فيهما على ما بيّنت .
ورُوي عن أبي رجاء العُطاردي أنه كان يقرأ ذلك : «بِسمِ اللّهِ مَجْرِيها وَمُرْسِيها » بضمّ الميم فيهما ، ويصيرهما نعتا لله . وإذا قرئا كذلك ، كان فيهما أيضا وجهان من الإعراب ، غير أن أحدهما الخفض وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب لأن معنى الكلام على هذه القراءة : بسم الله مُجْرِي الفلك ومُرسِيها ، فالمُجْرَى نعت لاسم الله . وقد يحتمل أن يكون نصبا ، وهو الوجه الثاني ، لأنه يحسن دخول الألف واللام في المُجِري والمُرْسِي ، كقولك بسم الله المُجْريها والمُرْسِيها ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال ، إذ كان فيهما معنى النكرة ، وإن كانا مضافين إلى المعرفة . وقد ذُكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك : «مَجْراها ومَرْساها » ، بفتح الميم فيهما جميعا ، مِنْ جَرَى ورَسَا كأنه وجهه إلى أنه في حال جريها وحال رسوها ، وجعل كلتا الصفتين للفُلْك كما قال عنترة :
فَصَبَرْتُ نَفْسا عِنْدَ ذلكَ حُرّةً *** تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطَلّعُ
والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ : بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاها بفتح الميم وَمُرْساها بضم الميم ، بمعنى : بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسِي . وإنما اخترت الفتح في ميم «مَجْراها » لقرب ذلك من قوله : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبالِ ولم يقل : تُجْرَى بهم . ومن قرأ : «بِسْمِ اللّهِ مُجْراها » كان الصواب على قراءته أن يقرأ : وهي تُجْرَي بهم . وفي إجماعهم على قراءة «تجري » بفتح التاء دليل واضح على أن الوجه في «مَجراها » فتح الميم . وإنما اخترنا الضم في «مُرساها » لإجماع الحجة من القرّاء على ضمها . ومعنى قوله مَجْراها مسيرها وَمُرْساها وَقْفها ، من وقفها الله وأرساها . وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «بسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : حين يركبون ويُجْرُون ويُرْسُون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «بسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : بسم الله حين يُجْرون وحين يُرْسون .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، في قوله : «ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : إذا أراد أن ترسي قال : بسم الله فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت .
وقوله : إنّ رَبي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه رحيم بهم أن يعذّبهم بعد التوبة .
{ وقال اركبوا فيها } أي صيروا فيها وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض . { بسم الله مجراها ومرساها } متصل ب { اركبوا } حال من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين باسم الله وقت إجرائها وإرسائها ، أو مكانهما على أن المجرى والمرسى للوقت أو المكان أو المصدر ، والمضاف محذوف كقولهم : آتيك خفوق النجم ، وانتصابهما بما قدرناه حالا ويجوز رفعهما ب { بسم الله } على أن المراد بهما المصدر أو جملة من مبتدأ وخبر ، أي إجراؤها { بسم الله } على أن { بسم الله } خير أو صلة والخبر محذوف وهي إما جملة مقتضية لا تعلق لها بما قبلها أو حال مقدرة من الواو أو الهاء . وروي أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست . ويجوز أن يكون الاسم مقحما كقوله :
ثم اسم السّلام عليكما *** . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية حفص { مجراها } بالفتح من جرى وقرئ { مرساها } أيضا من رسا وكلاهما يحتمل الثلاثة و " مجريها ومرسيها " بلفظ الفاعل صفتين لله . { إن ربي لغفور رحيم } أي لولا مغفرته لفرطاتكم ورحمته إياكم لما نجاكم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.