ثم استثنى جلّ ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ، فقال تعالى ذكره : { إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأصْلَحُوا } يعني : إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم ، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله ، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم . { وأَصْلَحُوا } يعني : وعملوا الصالحات من الأعمال . { فإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } يعني فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره { غَفُورٌ } يعني : ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردّة ، فتارك عقوبته عليه ، وفضيحته به يوم القيامة ، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه ، رحيم متعطف عليه بالرحمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إلا الذين تابوا} فلا يعذبون. {من بعد ذلك}: من بعد الكفر. {وأصلحوا} في العمل فيما بقي. {فإن الله غفور} لكفره، {رحيم} به فيما بقي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم استثنى جلّ ثناؤه الذين تابوا من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، فقال تعالى ذكره: {إِلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأصْلَحُوا} يعني: إلا الذين تابوا من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم. {وأَصْلَحُوا}: وعملوا الصالحات من الأعمال. {فإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره {غَفُورٌ}: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الردّة، فتارك عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غير مؤاخذه به إذا مات على التوبة منه. "رحيم": متعطف عليه بالرحمة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أطمع لهم المغفرة والرحمة وبالتوبة بعد الكفر بقوله: فقال: {فإن الله غفور رحيم}...
وفي الآية دلالة قبول توبة المرتدين لأن قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
المعنى: إن قيل إذا كانت التوبة من الذنب لا تصلح إلا بعد فعله، فلم قال:"من بعد ذلك" ؟ قيل فائدته أنه يفيد معنى تابوا منه، لأن توبتهم من غيره لا تنفع في التخلص منه، كما لا تنفع التوبة من الكبير في التخلص من الصغير... إذا كانت التوبة وحدها تسقط العقاب وتحصل الثواب فلم شرط معها الإصلاح؟ قيل: الوجه في ذلك إزالة الإبهام لئلا يعتقد، أنه إذا حصل الإيمان، والتوبة من الكفر لا يضر معه شيء من أفعال القبائح، كقوله: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون "فذكر مع الإيمان عمل الصالحات، لإزالة الإيهام بأن من كان مؤمنا في الحكم، لم يضره مع ذلك ما عمله من المعاصي...
وذكر المغفرة في الآية دليل على أن إسقاط العقاب بالتوبة تفضل، لأنه لو كان واجبا لما استحق بذلك الإثم بأنه غفور، لأنه لا يقال هو غفور إلا فيما له المؤاخذة، فأما ما لا يجوز المؤاخذة به فلا يجوز تعليقه بالمغفرة...
{إلا الذين تابوا من بعد ذلك}: إلا الذين تابوا منه [الكفر]، ثم بين أن التوبة وحدها لا تكفي حتى ينضاف إليها العمل الصالح فقال: {وأصلحوا}: أي أصلحوا باطنهم مع الحق بالمراقبات وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وذلك بأن يعلنوا بأنا كنا على الباطل حتى أنه لو اغتر بطريقتهم الفاسدة مغتر رجع عنها... {فإن الله غفور رحيم}: وفيه وجهان: الأول: غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو. الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله تعالى: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] ودخلت الفاء في قوله {فإن الله غفور رحيم} لأنه الجزاء، وتقدير الكلام: إن تابوا فإن الله يغفر لهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيراً إلى أن فيهم -وإن استبعد رجوعهم- موضعاً للرجاء بقوله: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} الارتداد حيث تقبل التوبة
{وأصلحوا} أي بالاستمرار على ما تقتضيه من الثمرات الحسنة {فإن الله} أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله {غفور} يمحو الزلات {رحيم} بإعطاء المثوبات، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إلا الذين تابوا} من ذنبهم وتابوا إلى ربهم: {من بعد ذلك} الظلم الذي دنسوا به أنفسهم فتركوه مستقبحين له نادمين على ما أصابوا منه: {وأصلحوا} أعمالهم بما صار للإيمان الراسخ من السلطان على نفوسهم، والتصريف لإرادتهم، أو أصلحوا نفوسهم بالأعمال الصالحة التي تمد الإيمان وتغذيه وتمحو من لوح القلب تلك الصفات الذميمة وتثبت فيه أضدادها: {فإن الله غفور رحيم} فينالهم من مغفرته، ما يزكي نفوسهم بمقتضى سنته، ويصيبهم من رحمته ما يؤهلهم لدخول جنته.
وقال الأستاذ الإمام في هذه الآية ما مثاله: عطف الإصلاح على التوبة لأن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا شأن لها ولا قيمة في نظر الدين. ولذلك جرى القرآن على عطف العمل الصالح عليها عند ذكرها أو وصفها بالنصوح. وترى كثيرا من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا تابوا عنه، ذلك بأنه لم يكن للتوبة أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، كي لا يعودوا إلى ما اقترفوا، ويهديهم إلى اتخاذ الوسائل لإصلاح شأنهم، وتقويم أمرهم.
الحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم، يحب أن يكونوا على ما يود ويحب؛ لأنهم صنعة الله فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين...
وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلاح الكون؛ لأن الله لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن من غفل عن منهج الله ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسداً مرتكبا لكل الحماقات، فكأن الله بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب الإسراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى الله، كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد، إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون، ولصالح الإنسان لينعم بمحبة الله، لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 89]...
ومعنى كلمة "أصلح "أنه زاد شيئا صالحا على صلاحه. والكون ليس فيه شيء فاسد. اللهم إلا ما ينشأ عن فعل اختياري من الإنسان وعلى التائب أن يزيد الصلاح في الكون، وهكذا نضمن ألا يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لأن من يريد أن يزيد الصالح صلاحا، لن يفسد الشيء الصالح. وربما كان هؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم الإيماني ساعة يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم، يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر صالح حتى يَجْبُر الله كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللاحقة...
ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للإصلاح وللخير، هم أناس قد تكون فيهم زاوية من زوايا الإسراف على نفوسهم في شيء، وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالات كثيرة جدا، كأن الله يقول لكل منهم: أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلائلي، إنه الحق يجعل من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير، فيتصدق على الفقراء، وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط...
وهذا ينطبق على من قال عنهم الله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ} (وأصلحوا) أي عملوا صلاحات كثيرة لأن حرارة إسرافهم على نفوسهم تلهب ظهورهم دائما، فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لاحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.