التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ} (57)

ثم ختم هود - عليه السلام - رده على قومه ، بتحذيرهم من سوء عاقبة إصرارهم على كفرهم فقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ . . . }

أى : فإن تتولوا عن دعوتى ، وتعرضوا عن الحق الذى جئتكم به من عند ربى ، فتكون عاقبتكم خسرا ، وأمركم فرطا .

أما أنا فقد أديت واجبى ، وأبلغتكم ما أرسلت به إليكم من عند ربى بدون تكاسل أن تقصير . وقوله { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } وعيد لهم بإهلاكهم وإحلال غيرهم محلهم .

أى : وهو - سبحانه - سهلككم بسبب إصراركم على كفركم فى الوقت الذى يشاؤه ، ويستخلف من بعدكم قوما آخرين سواكم ، يرثون دياركم وأموالكم ، ولن تضروا الله شيئا من الضرر بسبب إصراركم على كفركم ، وإنما أنتم الذين تضرون أنفسكم بتعريضها للدمار فى الدنيا ، وللعذاب الدائم فى الآخرة .

وقوله : { إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أى : إن ربى قائم على كل شيئ بالحفظ والرقابة والهيمنة ، وقد اقتضت سنته - سبحانه - أن يحفظ رسله وأولياءه ، وأن يخذل أعداءه .

وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد ساقت لنا بأسلوب بليغ حكيم . جانبا من الحوار الذى دار بين هود وقومه وهو يدعوهم إلى عبادة الله وحده ، فماذا كانت نتيجة هذا الحوال والجدال ؟

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقَدۡ أَبۡلَغۡتُكُم مَّآ أُرۡسِلۡتُ بِهِۦٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَيَسۡتَخۡلِفُ رَبِّي قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ وَلَا تَضُرُّونَهُۥ شَيۡـًٔاۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ حَفِيظٞ} (57)

تفريع على جملة { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] . وما بينهما اعتراض أوجبه قصد المبادرة بإبطال باطلهم لأنّ مضمون هذه الجملة تفصيل لمضمون جملة { إنّي أشهد الله } [ هود : 54 ] بناء على أنّ هذا من كلام هود عليه السّلام .

وعلى هذا الوجه يكون أصل { تولوا } تتولوا فحذفت إحدى التّاءين اختصاراً ، فهو مضارع ، وهو خطاب هود عليه السّلام لقومه ، وهو ظاهر إجراء الضمائر على وتيرة واحدة .

ويجوز أن تكون فعلاً ماضياً ، والواو لأهل مكّة فيكون كالاعتراض في إجراء القصة لقصد العبرة بمنزلة الاعتراض الواقع في قصّة نوح عليه السّلام بقوله : { أم يقولون افتراه قل إن افتريته } [ هود : 35 ] الآية . خاطب الله نبيّه صلى الله عليه وسلم وأمره بأن يقول لهم : { قد أبلغتكم } . والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة { فقد أبلغتكم } من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقولَ قول مَأمور به محذوف يدلّ عليه السياق . والتقدير : فقل قد أبلغتكم . وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين ، وهو من بديع أساليب الإعجاز ، ولأجله جاء فعل { تولوا } بتاء واحدة بخلاف ما في قوله : { وَإنْ تتولوا يستبدل قوماً غيركم } [ محمد : 38 ] .

والتولّي : الإعراض . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ، في سورة [ النساء : 80 ] .

وجعل جوابُ شرط التولّي قوله : { فقد أبلغتكم } مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطاً لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ ، فإنْ كان من كلام هود عليه السّلام ف { ما أرسلت به } هو ما تقدّم ، وإنْ كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود عليه السّلام .

وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم ، ولذلك عطف { ويستخلف ربّي قوماً غيركم } أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم ، وهذا كقوله تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] .

وارتفاع { يستخلف } في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم . وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصوداً بذاته لا تبعاً للجواب ، فبذلك يكون مقصوداً به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال .

وكذلك جملة { ولا تضرونه شيئاً } والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئاً و { شيئاً } مصدر مؤكد لفعل { تضرونه } المنفي .

وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالباً . والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي ، أي فالله يلحق بكم الاستئصال ، وهو أعظم الضر ، ولا تضرونه أقلّ ضر ؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة .

وجملة { إنّ ربّي على كل شيء حفيظ } تعليل لجملة { ولا تضرّونه شيئاً } ، فموقع { إنّ } فيها موقع فاء التفريع .

والحفيظ : أصله مبالغة الحافظ ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه ، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر .