التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن يخبرهم بأنهم لا مفر لهم من الموت ، مهما حرصوا على الهروب منه . فقال - تعالى - : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ . . . } .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء اليهود الذين يكرهون الموت ، ويزعمون أنهم أحباب الله ؟

قل لهم على سبيل التوبيخ والتبكيت : إن الموت الذى تكرهونه ، وتحرصون على الفرار منه ، لا مهرب لكم منه ، ولا محيص لكم عنه ، فهو نازل بكم إن عاجلا أو آجلا كما قال - سبحانه - { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ . . . } فالمقصود بهذه الآية الكريمة إخبارهم بأن هلعهم من الموت مهما اشتد لن يفيدهم شيئا ، لأن الموت نازل بهم لا محالة .

ثم بين - سبحانه - أنهم بعد الموت ، سيجدون الجزاء العادل فقال : { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .

أى : قل لهم - أيها الرسول الكريم - : إن الموت نازل بكم لا محالة . ثم بعد هلاككم سترجعون إلى الله - تعالى - الذى يعلم السر والعلانية ، والجهر والخفاء ، فيجازيكم على أعمالكم السيئة ، بما تستحقونه من عقاب .

فالمراد بالإنباء عما كانوا يعملونه ، الحساب على ذلك ، والمجازاة عليه .

وشبيه بهذه الآيات قوله - تعالى - فى سورة البقرة : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (8)

تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بَعُد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسياناً ، إذ هو عالم الغيب والشهادة . وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } [ الجمعة : 6 ] ، وإعادة فعل { قل } من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى : { تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } في سورة [ العقود : 114 ] .

و{ وصف الموت } ب { الذي تفرون منه } للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة :

إن الذين ترونهم إخوانكم *** يشفي غليل صدورهم أن تُصرعوا

وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة .

واقتران خبر ( إن ) بالفاء في قوله : { فإنه ملاقيكم } لأن اسم ( إن ) نُعِت باسم الموصول والموصول كثيراً ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم ( إن ) المنعوت بالموصول معاملة نعته .

وإعادة { إِنّ } الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير :

إن الخليفةَ إن الله سربله *** سِربال مُلْكٍ به تُزْجى الخَواتِيم

وتقدم عند قوله تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } في سورة [ الكهف : 30 ] . وفي سورة الحج أيضاً .

والإِنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه ، وهو تعريض بالوعيد .