ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك بعض الرذائل التي شاعت في بني إسرائيل ، والتي بسببها استحقوا اللعن والطرد من رحمة الله فقال - تعالى - :
{ لُعِنَ الذين كَفَرُواْ . . . }
قوله : { لُعِنَ } من اللعن بمعنى الطرد من رحمة الله فالملعون هو المحروم من رحمته - سبحانه - ولطفه وعنايته .
والمعنى : لعن الله - تعالى - الذين كفروا من بني إسرائيل بأن طردهم من رحمته ، على لسان نبيين كريمين هما داود وعيسى - عليهما السلام - .
وقد جاء الفعل " لعن " بالبناء للمجهول لأن الفاعل معلوم وهو الله - تعالى - ولأن الأنبياء ومنهم داود وعيسى لا يلعنون أحدا إلا بإذن الله - سبحانه - .
وقد جاء الفعل " لعن " بالبناء للمجهول لأن الفاعل معلوم وهو الله - تعالى - ولأن الأنبياء ومنهم داود داود وعيسى لا يلعنون أحدا إلا بإذن الله - سبحانه - .
وقوله : { مِن بني إِسْرَائِيلَ } في محل نصب على الحال من الذين كفروا أو من فاعل { كَفَرُواْ } وهو واو الجماعة .
وقوله : { على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } متعلق بلعن . أي : لعنهم - سبحانه - في الزبور والإِنجيل على لسان هذين النبيين الكريمين اللذين كان أولهما - بجانب منصب الرسالة - قائدا مظفرا قادهم إلى النصر بعد الهزيمة . وكان ثانيهما وهو عيسى - عليه السلام - رسولا مسالما جاءهم ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم .
قال الآلوسي : لعنهم الله - تعالى - في الزبور والإِنجيل على لسان داود وعيسى ابن مريم بأن أنزل في هذين الكتابين " ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله أو بأحد من رسله " وقيل : إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين فمسخهم الله قردة .
وأصحاب المائدة لما كفروا بعيسى قال : اللهم عذب من كفر من المائدة عذابا لم تعذبه أحداً من العالمين ، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت .
وقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } بيان لسبب لعنهم وطردهم من رحمة الله .
واسم الإشارة { ذلك } يعود إلى اللعن المذكور .
أي : ذلك اللعن للكافرين من بني إسرائيل سببه عصيانهم لله ولرسله ، وعدوانهم على الذين يأمرونهم بالقسط من الناس .
أي أن لعنهم لم يكن اعتباطاً أو جزافاً ، وإنما كان بسبب أقوالهم القبيحة وأفعالهم المنكرة ، وسلوكهم السيء .
وقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْا } جملة من مبتدأ وخبر . وقوله : { وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } معطوف على صلة ما وهو { عصوا } فيكون داخلا في حيز السبب الذي أدى إلى لعنهم والجملة المكونة من اسم الإِشارة { ذلك } وما بعدها مستأنفة واقعة موقع الجواب لسؤال تقديره لماذا لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ؟
وقد أفاد اسم الإِشارة مع باء السببية ومع وقوع الجملة في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك ما يشبه القصر .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى هذا المعنى بقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
أي : لم يكن ذلك اللعن الشنيع إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لشيء آخر .
وعبر - سبحانه - عن عصيانهم بالماضي فقال { ذلك بِمَا عَصَوْا } للإِشارة إلى استقرار العصيان في طبائعهم ، وثباته في نفوسهم وجوارحهم .
وعبر عن عدوانهم بالمضارع ، للإِيذان بأنه مستمر قائم ، فهم لم يتركوا نبياً إلا آذوه ، ولم يتركوا مصلحا إلا واعتدوا عليه فاعتداؤهم على المصلحين مستمر في كل زمان ومكان .
وقوله تعالى : { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } الآية . قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم ، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهداً في وقت نزول القرآن ، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاماً بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام ، وقال ابن عباس رحمه الله : لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن ، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير ، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت ؟ قالوا : خنازير على معنى الانحجاب ، قال : اللهم اجعلهم خنازير ، فكانوا خنازير ، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة ، وقال مجاهد وقتادة : بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير ، وحكى الزجّاج نحوه .
قال القاضي أبو محمد : وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية ، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه ، وروي عن ابن عباس أنه قال : لعن على لسان داود أصحاب السبت ، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة ، وقوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن .
جملة { لُعن } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً فيها تخلّص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النّصارى . وهي خبريّة مناسبة لجملة { قد ضَلّوا من قبل } [ المائدة : 77 ] ، تتنزّل منها منزلة الدّليل ، لأنّ فيها استدلالاً على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النّصارى . والمقصود إثبات أنّ الضّلال مستمرّ فيهم فإنّ ما بين داوود وعيسى أكثرُ من ألف سنة .
و { على } في قوله : { على لِسانِ داوود } للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكّن الملابسة ، فهي استعارة تبعيّة لمعنى بَاء الملابسة مثل قوله تعالى : { أولئك على هدى من ربّهم } [ البقرة : 5 ] ، قصد منها المبالغة في الملابسة ، أي لُعنوا بلسان داوود ، أي بِكلامه الملابس للسانه . وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المَزامير أنّ داوود لَعَن الَّذين يبدّلون الدّين ، وجاء في المزمور الثّالث والخمسين « الله من السّماء أشرفَ على بني البشر لينظر هل مِن فاهمٍ طالبٍ الله كلُّهم قد ارتدّوا معاً فَسدوا ثم قال أخزيتُهم لأنّ الله قد وفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل » وفي المزمور 109 « قد انفتحَ عليّ فم الشرّير وتكلّموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ثمّ قال ينظرون إليّ ويُنغِضُون رؤوسهم ثمّ قال أمَّا هُم فيُلعنون وأمَّا أنتَ فتُبارك ، قاموا وخُزُوا أمّا عبدك فيفرح » ذلك أنّ بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داوود مع ابنه ابشلوم . وكذلك لَعْنُهم على لسان عيسى متكرّر في الأناجيل . و« ذَلك » إشارة إلى اللّعن المؤخوذ من لُعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور . والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ؛ كأنّ سائلاً يسأل عن موجِب هذا اللّعن فأجيب بأنّه بسبب عصيانهم وعدوانهم ، أي لم يكن بلا سبب . وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السّببيّة ومع وقوعه في جَواب سؤال مقدّر أفاد مجموعُ ذلك مُفاد القصر ، أي ليس لعنهم إلاّ بسبب عصيانهم كما أشار إليه في « الكشاف » وليس في الكلام صيغة قصر ، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثّلاثة . وهذه النّكتة من غرر صاحب « الكشاف » . والمقصود من الحَصْر أن لا يضلّ النّاس في تعليل سبب اللّعن فربّما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضّلاّل في العناية بالسفاسف والتّفريط في المهمّات ، لأنّ التفطّن لأسباب العقوبة أوّل درجات التّوفيق . ومَثَل ذلك مثَل البُلْه من النّاس تصيبهم الأمراض المعْضلة فيحسبونها من مسّ الجنّ أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العِلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائِهَا .
و ( ما ) في قوله { بما عصوا } مصدريّة ، أي بعصيانهم وكونِهم معتدين ، فعُدل عن التّعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفِعلين مع ( ما ) المصدرية ليفيد الفعلان معنى تَجدّد العصيان واستمرار الاعتداء منهم ، ولتفيد صيغة المضي أنّ ذلك أمر قديم فيهم ، وصيغة المضارع أنّه متكرّر الحدوث . فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى .
والاعتداء هو إضرار الأنبياء . وإنّما عبّر في جانب العِصيان بالماضي لأنّه تقرّر فلم يَقبل الزّيادة ، وعُبّر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنّه مستمرّ ، فإنّهم اعتدوا على محمّد صلى الله عليه وسلم بالتّكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.