اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۢ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعۡتَدُونَ} (78)

ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم ، فقال تعالى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } .

قال أكثر المفسِّرِين{[13]} : يعني أهْلَ " أيلة " لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ : " اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً " فَمُسِخُوا قِرَدَةً ، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة ، ولم يُؤمِنُوا ، قال عيسى - عليه السلام - : اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير ، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ .

قال بعضُ العُلَماء{[14]} : إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء ، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة ؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - .

وقيل : إنَّ داوُدَ وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ{[15]} .

قوله تعالى : { مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ } : في محلِّ نصْبٍ على الحال ، وصاحبُها : إمَّا " الَّذينَ " وإمَّا واو " كَفَرُوا " وهما بمعنى واحدٍ ، وقوله : { عَلى لِسَانِ دَاوُودَ وعيسَى } المرادُ باللسانِ الجارحةُ ، لا اللغةُ ، كذا قال أبو حيان{[16]} ، يعني : أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ ، وجاء قوله " عَلَى لِسَانِ " بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ ، فلم يَقُلْ : " عَلَى لِسَانَيْ " ولا " عَلَى ألْسِنَةِ " لقاعدةٍ كليةٍ ، وهي : أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما ، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه : لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ - ، ويليه التثنيةُ عند بعضهم ، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية ، فيقال : " قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ " ، وإنْ شئْتَ : رَأسَي الكَبْشَيْن ، وإن شئْتَ : رَأسَ الكَبْشَيْنِ ، ومنه : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .

فقولي " جُزْأيْن " : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن ؛ نحو : " دِرْهَمَيْكُمَا " ، وقد جاء : " مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا " لأمْنِ اللَّبْسِ .

وبقولي : " مُفْردَيْنِ " : من نحو : " العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ " ، فأمَّا قوله تعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ففُهِم بالإجْماعِ .

وبقولي : " مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ " : تحرُّزٌ من نحو : قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ : السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ ؛ ومنه هذه الآية ، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ ، وقال بعضهم : " هُوَ مُخْتَارٌ " ، أي : فيجوز غيرُه ، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ .

قال شهاب الدين{[17]} : وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ{[18]} ؛ فإنه قال : " نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى " ، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين ، ورجَّح ما قلته ؛ قال - رحمه الله - : " وقال ابن عبَّاس : يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ ، ومعنى هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل ، وكذلك في الإنجيلِ ، وقيل : على لسان دَاوُدَ وعيسَى ؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ ، والإنجيلَ لسانُ عيسى " ، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ ، ثم قال : وقال الزَّجَّاج{[19]} : " وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به " ، والقول هو الأوَّل ، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين ، و " عَلَى لسانِ " متعلِّقٌ ب " لُعِنَ " قال أبو البقاء{[20]} : " كما يُقال : جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ " ، وفيه نظرٌ ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ ، وقوله : " ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا " قد تقدَّم نظيره ، وقوله : " وَكَانوا يَعْتَدُونَ " في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان :

أظهرهما : أن تكون عطفاً على صلةِ " مَا " وهو " عَصَوْا " ، أي : ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين .

والثاني : أنها استئنافيةٌ ، أي : أخبر الله تعالى عنهم بذلك ، قال أبو حيان{[21]} : " ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له ، وهو قولُه : كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ " .


[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.