ولما نهاهم{[27176]} عن ذلك وقبحه عليهم . علله محذراً منه بقوله تعالى بانياً{[27177]} للمفعول ، لأن الفاعل معروف بقرينة{[27178]} من هو على لسانهما : { لعن } ووصفهم بما نبه على علة لعنهم بقوله : { الذين كفروا } وصرح بنسبتهم تعييناً لهم وتبكيتاً{[27179]} وتقريعاً فقال : { من بني إسرائيل } وأكد هذا اللعن وفخمه بقوله : { على لسان داود } أي{[27180]} الذي كان على شريعة موسى عليه السلام ، وذلك باعتدائهم في السبت فصاروا قردة { وعيسى ابن مريم } أي الذي نسخ شرع موسى عليه السلام ، بكفرهم بعد المائدة فمسخوا خنازير ، لأنهم{[27181]} خالفوا النبيين معاً ، فلا هم تعبدوا بما دعاهم إليه داود عليه السلام من شرعهم الذي هم مدعون التمسك به ، وعارفون بأن ما دعاهم إليه منه{[27182]} حقاً ، ولا هم خرجوا عنه إلى ما أمروا بالخروج إليه على لسان موسى عليه السلام في بشارته به{[27183]} متقيدين بطاعته ، فلم تبق{[27184]} لهم علة من التقيد به ولا التقيد{[27185]} بحق دعاهم إليه غيره ، فعلم قطعاً أنهم مع الهوى كما مضى ، و{[27186]} لم ينفعهم مع نسبتهم إلى{[27187]} واحدة من{[27188]} الشريعتين نسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام ، فإنه لا نسب لأحد عند الله دون التقوى لا سيما في يوم الفصل إذ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين .
ولما أخبر بلعنهم{[27189]} وأشار إلى تعليله بكفرهم ، صرح بتعليله بقوله : { ذلك } أي اللعن التام { بما } أي بسبب ما{[27190]} { عصوا } أي فعلوا في ترك أحكام الله فعل العاصي على الله { وكانوا يعتدون * } أي كانت مجاوزة الحدود التي حدها الله لهم خلقاً .
ذكر الإشارة إلى لعنهم في الزبور والإنجيل ، قال في المزمور السابع والسبعين{[27191]} من الزبور : أنصت{[27192]} يا شعبي لوصاياي{[27193]} ، قربوا أسماعكم إلى قول فمي ، فإني أفتح بالأمثال فمي ، وأنطق بالسرائر الأزلية التي سمعناها وعرفناها وأخبرنا آباؤنا بها ولم يخفوها عن أبنائهم ليعرف الجيل الآتي تسابيح{[27194]} الرب وقوته وعجائبه التي صنعها ، أقام شهادته في يعقوب وجعل ناموساً في إسرائيل كالذي أوصى آباءنا ليعلموا أبناءهم ، لكيما يخبر الجيل الآخر البنين الذين يولدون ويقومون ، ويعلمون أيضاً بنيهم أن يجعلوا توكلهم على الله ولا ينسوا أعمال الرب ، ويتبعوا{[27195]} وصاياه لئلا يكونوا كآبائهم{[27196]} الجيل المنحرف المخالف الخلف الذي لم يثق قلبه ولم يؤمن بالله المفرج عنه ، بنو إفرام الذين أوتروا ورفعوا{[27197]} عن قسيهم وانهزموا في يوم القتال لأنهم لم يحفظوا عهد الرب ولم يشاؤوا أن يسيروا في سبله ، ونسوا حسن{[27198]} أعماله وصنائعه التي أظهرها{[27199]} قدام آبائهم ، العجائب التي صنعها بأرض مصر في{[27200]} مزارع صاعان ، فلق البحر وأجازهم وأقام المياه كالزقاق ، هداهم{[27201]} بالنهار في الغمام وفي الليل أجمع بمصابيح النار{[27202]} ، فلق صخرة في البرية وسقاهم منها كاللجج{[27203]} العظيمة ، أخرج الماء من الحجر فجرت المياه كجري الأنهار ، وعاد الشعب أيضاً في الخطيئة ، وأسخطوا العلي حيث لم يكن ماء{[27204]} ، جربوا الله في قلوبهم بمسألة الطعام لنفوسهم ، وقذفوا{[27205]} على الله وقالوا : هل يقدر أن يصنع لنا مائدة في البرية ، لأنه{[27206]} ضرب الصخرة فجرت المياه وفاضت الأودية ، هل يستطيع أن يعطينا خبزاً أو يعد مائدة لشعبه ، سمع الرب فغضب واشتعلت النار في يعقوب ، وصعد الرجزُ على إسرائيل لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا رجوا خلاصه ، فأمر السحاب من فوق وانفتحت أبواب السماء وأنزل لهم المن ليأكلوا ، أعطاهم خبز السماء ، أكله الإنسان ، أرسل إليهم صيدا ليشبعوا ، أهاج ريح التيمن{[27207]} من السماء وأتى بقوة العاصف{[27208]} ، وأنزل اللحم مثل التراب وطير السماء ذات الأجنحة مثل رمل البحار ، يسقطن في محالهم حول خيامهم ، فأكلوا وشبعوا جداً ، أعطاهم شهوتهم ولم يحرمهم إرادتهم ، فبينما الطعام في أفواههم إذ غضب الله نزل عليهم فقتل في كثرتهم وصرع{[27209]} في مختاري إسرائيل ، ومع هذا كله أخطؤوا{[27210]} إليه أيضاً ولم يؤمنوا بعجائبه ، فنيت{[27211]} بالباطل أيامهم ، وتصرمت عاجلاً سنوهم ، فحين قتلهم رغبوا إلى الله وعادوا وابتكروا إليه وذكروا أن الله معينهم وأن الله العلي مخلصهم ، أحبوه بأفواههم وكذبوه{[27212]} بألسنتهم ، ولم تخلص له قلوبهم ولم يؤمنوا بعهده ، وهو رحيم رؤوف ، يغفر ذنوبهم ولا يهلكهم ، ويرد كثرة سخطه عنهم ولا يبعث كل رجزه ، وذكر أنهم لحم وروح يذهب ولا يعود ، مراراً كثيرة أسخطوه في البرية وأغضبوه في أرض ظامئة{[27213]} ، وعادوا و{[27214]} جربوا{[27215]} الله وأسخطوا قدوس إسرائيل ، ولم يذكروا يده في يوم نجاهم{[27216]} من المضطهدين{[27217]} - انتهى .
هذا بعض ما في الزبور ، وأما الإنجيل فطافح بذلك ، منه ما في إنجيل متى ، قال : وانتقل يسوع من هناك وجاء إلى عبر{[27218]} الجليل ، وصعد إلى الجبل وجلس هناك ، وجاء إليه جمع كبير معهم{[27219]} خرس وعمى وعرج وعسم وآخرون كثيرون{[27220]} ، فخروا عند رجليه فأبرأهم ، وتعجب الجمع لأنهم نظروا الخرس يتكلمون و{[27221]} الصم يسمعون{[27222]} والعرج يمشون{[27223]} والعمى يبصرون ، ومجدوا إله إسرائيل ، وإن يسوع دعا تلاميذه وقال لهم : إني أتحنن{[27224]} على هذا الجمع ، لأن لهم معي{[27225]} ثلاثة أيام{[27226]} ههنا ، وليس عندهم ما يأكلون ، ولا أريد أطلقهم صياماً لئلا يضيعوا في الطريق ، قال مرقس : لأن منهم من جاء من بعيد - انتهى . قال له التلاميذ : من أين نجد{[27227]} من خبز القمح في البرية ما يشبع هذا الجمع ؟ فقال لهم يسوع : كم عندكم من الخبز ؟ فقالوا : سبعة أرغفة ويسير من السمك{[27228]} ، فأمر الجمع أن يجلس على الأرض وأخذ السبع خبزات والسمك{[27229]} وبارك وكسر وأعطى تلاميذه ، وناول{[27230]} التلاميذ الجمع ، فأكل جميعهم وشبعوا ورفعوا فضلات الكسر سبع قفاف مملوءة ، وكان الذين{[27231]} أكلوا نحو أربعة آلاف رجل{[27232]} سوى النساء{[27233]} والصبيان ، وأطلق الجمع وصعد{[27234]} السفينة{[27235]} وجاء إلى تخوم مجدل - وقال مرقس : إلى نواحي مابونا{[27236]} - وجاء الفريسيون والزنادقة يجربونه ويسألونه أن يريهم آية من السماء ، فأجابهم يسوع قائلاً : إذا كان المساء قلتم : إن السماء صاحية - لاحمرارها ، وبالغداة تقولون{[27237]} : اليوم شتاء - لاحمرار جو السماء العبوس ، أيها المراؤون ! تعلمون آية هذا الزمان ، الجيل الشرير الفاسق يطلب آية ، ولا يعطى إلا آية يونان النبي - وتركهم ومضى ، ثم جاء التلاميذ إلى العبر ونسوا أن يأخذوا خبزاً - قال مرقس : ولم يكن في السفينة إلا رغيف واحد - وإن يسوع قال لهم : انظروا وتحرزوا من خمير الفريسيين والزنادقة - وقال مرقس : وخمير هيرودس{[27238]} - ففكروا قائلين : إنا{[27239]} لم نجد خبزاً ، فعلم يسوع فقال لهم : لماذا{[27240]} تفكرون في نفوسكم يا قليلي الأمانة ؟ إنكم ليس معكم خبز ، أما تفهمون و{[27241]} لا تذكرون الخمس خبزات لخمسة آلاف وكم سلاً{[27242]} أخذتم ؟{[27243]} والسبع خبزات لأربعة آلاف ، وكم قفة أخذتم{[27244]} ؟ لماذا لا تفهمون ؟ لأني لم أقل لكم من أجل الخبز ، حينئذ فهموا أنه{[27245]} لم يقل لهم أن يتحرزوا من خمير الخبز ، لكن من تعليم الزنادقة والفريسيين ، و{[27246]} قال لوقا : تحرزوا{[27247]} لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء{[27248]} ، لأنه ليس خفي إلا سيظهر ، ولا مكتوم إلا سيعلم ، الذي تقولونه{[27249]} في الظلام سيسمع في النور ، والذي وعيتموه في الآذان سوف ينادى به على السطوح ، أقول لكم : يا أحبائي لا تخافوا ممن يقتل الجسد ، وبعد ذلك ليس له أن يفعل أكثر ، خافوا ممن{[27250]} إذا قتل{[27251]} له سلطان أن يلقى في نار جهنم - وسيأتي بقية الإشارة إلى لعنهم{[27252]} في سورة الصف إن شاء الله تعالى ، والعسم{[27253]} جمع أعسم{[27254]} - بمهملتين ، وهو من{[27255]} في يده أو قدمه اعوجاج أو يده يابسة .