التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ} (19)

ثم ختم - سبحانه - السورة بقوله : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى . صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } أى : إن هذا الذى ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على الآخرة ، لكائن وثابت ومذكور فى الصحف الأولى ، التى هى صحف إبراهيم وموسى ، التى أنزلها - سبحانه - على هذين النبيين الكريمين ، ليعلما الناس ما اشتملت عليه من آداب وأحكام ومواعظ . وفى إبهام هذه الصحف ، ووصفها بالقدم ، ثم بيان أنها لنبيين كريمين من أولى العزم من الرسل ، تنويه بشأنها ، وإعلاء من قدرها .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ} (19)

وقرأ الجمهور «الصحُف » مضمونة الحاء ، وروى هارون عن أبي عمرو بسكون الحاء ، وهي قراءة الأعمش ، وقرأ أبو رجاء : { إبراهيم } بغير الياء ولا ألف ، وقرأ ابن الزبير «ابراهام » في كل القرآن ، وكذلك أبو موسى الأشعري ، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة «إبراهِم » بكسر الهاء وبغير ياء في جميع القرآن وروي أن { صحف إبراهيم } نزلت في أول ليلة من رمضان ، والتوراة في السادسة من رمضان والزبور في اثني عشرة منه والإنجيل في ثمان عشرة منه والقرآن في أربعة عشرة منه{[11759]} .

نجز تفسير سورة { الأعلى } والحمد لله كثيراً .


[11759]:قال ابن جرير في تفسيره: "حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخلد، قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست ليال خلون من رمضان، وأنزل الزبور لاثنتي عشرة ليلة، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة، وأنزل القرآن لأربع وعشرين" وهذا يصحح لنا ما في الأصول هنا من أن القرآن أنزل في الرابع عشر من رمضان.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{صُحُفِ إِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله : "إنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الأُولى" اختلف أهل التأويل في الذي أشير إليه بقوله هذا ، فقال بعضهم : أُشير به إلى الآيات التي في «سبح اسم ربك الأعلى » ...

وقال آخرون : قصة هذه السورة ...

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن هذا الذي قصّ الله تعالى في هذه السورة لَفِي الصّحُفِ الأُولى ...

وقال آخرون : بل عُنِي بذلك في قوله : "وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وأبْقَى" في الصحف الأولى ...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : إن قوله : "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكى وَذَكَرَ اسمَ رَبّهِ فَصَلّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدّنيْا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأبْقَى" : لفي الصحف الأولى ، صحف إبراهيم خليل الرحمن ، وصحف موسى بن عمران .

وإنما قلت : ذلك أولى بالصحة من غيره ، لأن هذا إشارة إلى حاضر ، فلأن يكون إشارة إلى ما قرب منها ، أولى من أن يكون إشارة إلى غيره . وأما الصحف : فإنها جمع صحيفة ، وإنما عُنِي بها : كتب إبراهيم وموسى .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ صحف إبراهيم } قدمه لأن صحفه أقرب إلى الوعظ ...{ وموسى } ختم به لأن الغالب على كتابه الأحكام ، والمواعظ فيه قليلة ، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإخبار بأنهم يخالفونها كما هو مذكور في أواخرها مع أن ذكر النبيين عليهما الصلاة والسلام على الأصل في ترتيب الوجود والأفضلية ،...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

بدلٌ من الصحفِ الأُولى وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنِها ما لا يَخْفى ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن، لا التي لم يسبقها غيرها، لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليه صحف. فهو كوصف { عاد بالأولى } في قوله : { وأنه أهلك عاداً الأولى } [ النجم : 50 ] وقوله تعالى : { هذا نذير من النذر الأولى } [ النجم : 56 ] وفي حديث البخاري : " إنَّ مما أدرك الناسُ من كلام النبوءة الأولى إذَا لم تستح فاصنع ما شئت " .

ختام السورة:

نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :

سورة الأعلى من السور الأثيرة عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فقد كان -كما تعلمون- يقرؤها في الجمعة والعيدين، لما فيها من توجيهات مركزة.

وهي في جسمها غير قابلة -تقريبا- للتبعيض والتجزيء؛ لأن بعضها آخذ برقاب بعض؛ لاكتنازها، وكثافة الهدى النازل فيها، فهي كالقطعة الواحدة.

وقد صيغت صياغة شبيهة بسورة العلق.

وإن كان يمكن تمييز مقطعين كبيرين لها، مؤسسين على أمرين كبيرين أيضا:

- أمر التسبيح وموجباته ونتائجه.

- وأمر التذكير ونتائجه وقوانينه، والإعراض عنه.

أما النقط الكبرى التي يدور حولها الهدى المنهاجي فيها، فهي خمس:

الهدى الأول: رأس العلم العلم بالركنين: ركن العلم بالله تعالى، وركن العلم بالآخرة.

أما الركن الأول: فواضح في أولها وممتد إلى آخرها، ولكنه في أولها أظهر.

وأما الركن الثاني: فإليه إشارة خفيفة في أولها عرضا، ثم يظهر بوضوح في آخر السورة.

ومن العلم بالله تعالى المذكور في هذه السورة القصيرة الغنية أن تعلم:

أولا: أنه ربك ورب كل شيء، بمعنى أن هذه السورة ذَكرت عدداً مما يجب أن يعلمه عبد الله ممثلا في صورة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن ربه عز وجل، ولكن الخطاب يتجه إلى كل مؤمن ومؤمنة من بعده حتى تقوم الساعة، ولا سيما أولئك الذين يتبعون ما أنزل عليه حق الاتباع \(\الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ\)\ [البقرة: 120] فأكثر المومنين اتباعا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- أحقهم وأجدرهم بأن يعلم هذا العلم الذي يجب لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن ربه.

فأول ذلك أنه "ربك "ورب كل شيء \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ\)\ هذا الأصل -كما سبق- نجده في هذه السور الأولى: وجدناه في \(\اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ\)\ وقد مر الكلام عن هذه السورة، ووجدناه في سورة القلم \(َا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ\)\ووجدناه بعد ذلك في السور الأخرى: في المزمل \(\وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ\)\ وفي المدثر \(\وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ\)\ وهكذا.

هذه السور كلها خطاب مركز لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- تبني عنده "الرؤية" بلغة اليوم، تبني عنده التصور الذي ينبغي أن يستقر في قلب المسلم، وأن يحكم حياته، وتبني عنده المنهاج أيضا.

فهذه النقطة: أنه ربه، وأنه ربك، وأنه ربنا ورب كل شيء، هذه الحقيقة، هذا العلم لابد أن يستقر في قلب العبد.

والربوبية كما سبق تتجلى في عدد من الأمور خلاصتها: أن الله عز وجل منه كل شيء، أن ربنا منه كل شيء، وبيده كل شيء، ويدبر أمر كل شيء، وإليه يرجع كل شيء،... وهكذا. استمرّ على هذا، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا به.

لابد أن تستقر هذه الحقيقة في قلب المؤمن. ولاسيما المؤمن الذي يتبع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في حمل الأمانة من بعده، وكل مؤمن تابع لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو كذلك.

لأن هذه الأمة، أمة الشهادة على الناس، فلا نبي بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وكل مؤمن من هذه الأمة هو حامل وشاهد وشهيد: هو من الشهداء على الناس بالقسط إن تأهل لذلك، إن صلح وأصلح كما تقدم ذلك في بيان المزمل والمدثر.

ثانيا: أنه الأعلى مطلقا: اسم التفضيل في الأحوال العادية في اللغة العربية لابد أن يُذكر بعده المفضل عليه: أفضل من كذا، أكبر من كذا، أحسن من كذا، إلى آخره.

لكن بالنسبة لله تعالى جل وعلا كما يقولون اسم التفضيل ليس على بابه فهو على إطلاقه، فلا حديث عن أعلى ممن؟ أو ممه؟ بل، هو الأعلى مطلقا. هذه الحقيقة ينبغي أن تستقر في قلب العبد أيضا، فلا شيء يساوي الله جلّ جلاله، ولا شيء يداني الله جلّ جلاله؛ وعلى قدر قرب العبد منه في سجوده يكون شعوره بعلوه لديه.

هاهنا نقطة لابد أن نلتفت إليها: رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول لنا: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"، والسجود هو حالة الخضوع الكامل، فلا نجد في أعمال الصلاة ما فيه الخضوع أكثر من السجود. الركوع أقل من السجود، والقيام أقل من الركوع، والصورة التي يظهر فيها خضوع العبد لربه على أقصى ما يكون هي صورة السجود، والجبهة التي هي مكان الشموخ في الإنسان، والأنف الذي هو مكان الأنفة، كل ذلك ينبغي أن ينزل إلى التراب، ويلامس التراب، ويخضع للمولى جل وعلا، هذه الصورة من الخضوع ومن الذلة كلها تعبر عن حالة كون العبد أكثر قربا، وبذلك النزول الكبير يكون الرب عاليا جدا، لأن الله جل وعلا هو الأعلى. وقد شرع لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن نسبح بهذا التسبيح في السجود "سبحان ربي الأعلى"، نحن في حال الانخفاض الشديد نستحضر عُلُوّ الله الشديد، الذي لا نهاية له، وعلى قدر استحضار العبد علو الله، يكون علو هذا العبد في القرب من الله، ويكون ارتقاؤه إلى الله جل جلاله. ولما كان القرب قربا من الأعلى كان الخضوع له والنزول ارتفاعاً.

فعلى قدر هذا الخضوع وهذا الانخفاض يكون الارتفاع، هذه حقيقة أيضا لابد أن يحس العبد المؤمن بها.

وإذا استقرت هذه الحقيقة في القلب، انخفض كل شيء، ما بقي ارتفاع لشيء، لا في الكائنات المادية، ولا للكائنات الحية، ولا للكائنات البشرية، كل شيء منخفض، ويبقى الله جل جلاله هو الأعلى.

هذا المعنى إذا استقر في نفس العبد كان مما يُكَوِّن معنى الأكبرية -كما سبق في المدثر- \(\وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ\)\ ومما يكوِّن معنى الشعور بأنه جلّ جلاله الأعلى كما هنا.

ثالثا: أنه الذي خلق كل شيء \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ\)\.

لقد قلت: إن صياغة هذه السورة تشبه صياغة سورة العلق.

وذلك لأن الأفعال فيها، تكاد تكون كلها مطلقة، أي لا توجد لها مفاعيل، وسبق أن قلت: إذا لم يذكر مفعول الفعل فمعناه أن التركيز على الفعل نفسه، لا على ما يقع عليه، ومن ثم فكل ما يقع عليه الفعل هو داخل في الكلام، فحين تقول \(\الَّذِي خَلَقَ\)\ لا داعي لأن تقول خلق الإنسان، خلق الحيوان، خلق النبات، خلق الأشجار، خلق الأطيار، خلق الجبال، خلق البحار، خلق الشمس،... هذا كله داخل، ما نعلمه وما لا نعلمه، كل مخلوق داخل ضمن الفعل \(\الَّذِي خَلَقَ\)\ فالخلْقُ أصلا له، صَدق على ما صَدَق، وعلى من صدق، فالخلق كله له جل جلاله.

فإذن: \(\الَّذِي خَلَقَ\)\ هو الذي خلق كل شيء سبحانه من الذرة إلى المجرة. من أصْغر شيء إلى أكبر شيء، من الفوتون -كما يقول الفيزيائيون- إلى الكون.

هذا الفوتون الذي هو ثلث الإلكترون الذي هو جزء من الذرة هذه الأشياء الدقيقة هي مما نعلمه الآن، ولكن ما لا نعلم لا حد له، ما لا نعلمه لا نهائي الوجود، فالشعور واليقين بأن الله جل جلاله خلق كل شيء، مما يجب أن يستقر في قلب العبد.

رابعا: هو الذي سَوَّى خِلْقَة كل شيء سبحانه: \(\خَلَقَ فَسَوَّى\)\، الخلقة هي الكيفية التي خُلقت عليها الأشياء؛ فكل حيوان له خِلْقَة، كل أنواع الحيوان، بل كل فرد من أفراد الحيوان، وكل فرد من أفراد النبات، وكل فرد من أفراد الإنسان، وكل فرد من أفراد الكائنات له تميز؛ إذ خَلْقُ الله خلاف صُنْع البشر، صنع البشر يكون على نمط واحد، الكأس التي خرجت من المصنع تشبه بقية الكؤوس التي خرجت على منوالها، لكن نحن جميعا بشر، خرجنا وخلقنا خلقا سويا لكن لا أحد يشبه الآخر، لا أحد، لا أحد!!

ما أعظم الله!!

كيف؟

كم من ملايير البشر؟ كم من ملايير الحيوانات؟،كم كم... من مختلف الكائنات؟؟.

سبحانه، سبحانه، سبحانه..

لا يستطيع الإنسان أن يتصور هذه القدرة، هذه العظمة، لا يملك الإنسان إلا أن يقف مشدوها، مدهوشا، حائراً، أمام عظمة الله سبحانه وتعالى.

"البنان" الآن آية من آيات الله سبحانه في خصوصية كل فرد في زماننا هذا، أصبح العلماء يستعملون البصمة للتأكد من هوية الأفراد؛ لأنها خاصة في كل فرد، وفي بعض الدول يستعملون البصمة في تسجيل الشروع في العمل، فعندما يكون العامل داخلا يضع أصبعه في الماسوح -أُسَمِّيه ماسوح Scanner- فيلتقط الصورة، قال الله تعالى \(\بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ\)\ [القيامة: 4].

كم من أنواع هذا البنان خلق الله؟ كل بشر له بنانه الخاص، إلى الحد الذي عندما كشف الإنسان هذا بدل أن يضع كثيرا من الضوابط، اقتصر على هذا الضابط. وكذلك بصمة العين الآن؛ لأنهم اكتشفوا أيضا خصوصية في العين، وربما الأيام ستكشف عن أن لكل شيء خصوصيته في الفرد، تدل على عظمة الله في الخلق والتسوية.

هذا الذي سَوَّى؛ سوَّى هذه الخلقة على أساس أن هذا الكائن، وفق كيفية معينة لوظيفة معينة \(\رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ\)\ [آل عمران: 191] ما خُلِق خلْقٌ عبثا!! أي إن كل مخلوق خلق لغرض، خلق لهدف، خلق لوظيفة محددة عند الله سبحانه وتعالى، عرفناها أم لم نعرفها، اهتدينا إليها أم لم نهتد إليها، هي موجودة وكائنة وقائمة.. فيما نعلم وفيما لا نعلم.. من مختلف الكائنات، كل كائن إنما خلقه الله عز وجل لهدف، خلقه لوظيفة، وتلك الوظيفة أساسية عند الله سبحانه وتعالى في مجموع الكون، في توازنه العام، سبحانه سوَّى كل شيء \(َّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ\)\ [الملك: 3].

خامسا: أنه الذي قدر كل شيء سبحانه: لا نملك إلا التسبيح له كما قال عز وجل: \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5)\)\ كلٌّ من هذه الأفعال يستوجب التسبيح، سبحان من فعل هذا.. إنه قدر كل شيء سبحانه، محدداً الكم والكيف بالنسبة لكل ما كان وما هو كائن وما سيكون بالنسبة لكل كائن. جميع الكائنات في حاضرها، وفي مستقبلها، وعلى أي صورة.. كل شيء عند الله مقدر، فقد أعد الخلق إعداداً وتسوية، حسب الهدف، وحدد كل الأمور ثم هدى، حدد الأشياء كلها، حدد المقادير كلها قدرها تقديرا في جميع الأمور.

هذه حقيقة أيضا يجب أن تستقر في قلب العبد.

سادسا: أنه الذي هدى: هدى أي شيء سبحانه، جميع الكائنات مهدية إلى ما خُلقت له.

مهدية بمهْ؟

إما بالتسخير.

وإما بالتيسير، هدى أي شيء سبحانه مرشدا له بالتسخير أو بالتيسير اضطراراً أو اختياراً إلى ما فيه صلاحه حسب ما قدره واقتضته حكمته.

وهذا الكلام يحتاج إلى كلام.

لأننا إذا تأملنا قليلا الكائنات، وجدنا فيها المسخر وغير المسخر، وغير المسخر هو الذي يُسِّرت له الأشياء.

فعلى رأس الكائنات التي يسرت لها الأمور هذا الإنسان. وعبر الله بتيسير الذِّكْر له فقال: \(\وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ\)\ [القمر: 17].

يسر لنا الأمور فعلا، بمعنى وضع الأمارات والنُّصُبَ على الأشياء، ويسر الوصول إليها عن طريق التفكير بما آتانا من أجهزة التلقي، ووسائل الحس، أو مركز التحليل الداخلي الذي يقال له اليوم: العقل، سواء بإرشاد الكون أو بإرشاد الوحي، وهو يفهم بهذه الطاقة التي هي العقل أيضا.

أما الكائنات الأخرى فهي مسخرة لما خلقت له، دون أن تفكِّر، بل تتجه اتجاها إلى المطلوب. هي كذلك خُلِقَتْ لذلك، وتقوم بذلك \(\وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ\)\ [يس: 39].

فمن أعد لشغل، فهو قائم به، مهدي إليه، في الكون كله.. من جماد، ونبات، وحيوان.

والإنس والجن هما اللذان حُمِّلاَ الأمانة بالاختيار، فلذلك قلت: مرشدا له بالتسخير أو التيسير اضطراراً أو اختياراً، ونحن فينا القسمان معا:

القسم الاختياري والقسم الاضطراري.

اشتغال معدتنا الآن ونحن جلوس، اشتغال قلبنا واشتغال جهازنا الدموي وغير ذلك من الأجهزة الكثيرة مما فينا لا يستشيرنا، ولا يستأذننا، ولا نتحكم فيه، هو مسخر ويعمل بأمر الله اضطرارا.

وذلك الذي يمثل ما يسمى اليوم بالبنية التحتية في كياننا.

بمعنى أن القسم الاختياري عندنا قليل، إنه فرصة للابتلاء.

ولكن القسم المهم اللازم للحياة وللبقاء، كله رتبه الله جل جلاله وأخرجه من أيدينا نهائيا.

فالتجهيزات الضرورية في الكون، وفي الإنسان نفسه في علاقته بهذا الكون، كلها رتبها الله جل جلاله وفرغ منها. فهو "الذي هدى"..

سابعا: أنه الذي أخرج نبات كل شيء سبحانه، قوتا ورزقا ومتاعا للحيوان والإنسان.

قيام الحياة في الأساس على النبات؛ لأن النبات منه يقتات الحيوان، والإنسان يقتات من النبات ومن الحيوان.

والأصل هو هذا الماء الذي أنزله الله عز وجل فأخرج به نبَاتَ كُلِّ شيء.

فهو الذي أخرج ما يُرْعَى (المرعى)، أخرج ذلك النبات ونماه حتى وصل إلى درجة يصلح فيها أن يُرْعى ليكون قوتا، وليكون رزقا، وليكون متاعا أيضا.. \(\انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ\)\ [الأنعام: 100] وينْعه أيضا، ليس إلى الثمر فقط، فالجمال من المقاصد الكبرى في هذا الكون أيضا.

ثامنا: أنه الذي أيبس خضرة كل شيء سبحانه \(\فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى\)\هذه الكائنات التي فيها طراوة الحياة، وفيها خضرة الحياة؛ في النبات، وفي غير النبات، كلها ستصير غثاء. ومثل سبحانه بالنبات لننتقل من النبات إلى غير النبات، لنعلم أننا صائرون إلى نهاية مثل النبات. نحن أيضا سنيبس كما ييبس النبات الذي كان خَضِرا، سنصير غثاءً -نحن كذلك- أحوى.

والحُوَّة لون داكن يقترب من السواد. ومعنى الحوَّة عند العرب يتجه إلى معنيين: أحيانا ذهبوا به إلى الخضرة، وأحيانا ذهبوا به إلى جهة اليُبُوسة عندما يطول الأمد، ويبلى الكائن، ويصبح لونه يكاد يقترب من التراب. لقد صار \(\غُثَاء أَحْوَى\)\ ذهب ينعه، ذهب ما كان فيه من جمال.

الذي نقل تلك الكائنات من حال الاخضرار إلى حال اليُبْسِ، حتى صارت غثاء قد اسود من البلى، هو الله جل جلاله.

لم ذلك؟ عبرة لأولي الألباب.

تاسعا: أنه الذي يعلم كل شيء سبحانه ما جهر وظهر، وما خفي واستتر \(\إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى\)\.

هذه كما ترون عدة حقائق، كلها مما يدخل ضمن العلم بالله جلّ جلاله، لابد أن تستقر في قلب العبد ليستطيع أن ينهض بالحمل الذي نهض به رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.

هذا من جهة العلم بالله تعالى.

ومن جهة العلم بالآخرة في السورة أن تعلم:

أولا: أن حرّ النار الكبرى لا يطاق \(\سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى\)\.

يَصلى النار الكبرى، بمعنى يقاسي حَرَّها الشديد جداً، الذي لا مثيل له ولا قبل لأحد به. وهذا الوصف للنار الشديدة الحر ورد في آيات أخرى كثيرة؛ والذي يعنينا هنا: أنه مما ذكر في العلم بالآخرة للتخويف.. لدفع العبد ليفر إلى ربه، ليتوب إلى الله عز وجل.

ثانيا: أن يعلم أن داخِلَ تلك النار من الأشقياء، لا يذوقون فيها الموتَ فيستريحون، ولا يذوقون فيها الحياة فينعمون وينتفعون.

وضْع لا نستطيع أن نتصوره بتاتا، ولكن العبارة القرآنية تشخصه تشخيصا.

الموت صار نعمة، صار حلا، لكن، لا سبيل إليه \(\لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ\)\ [الدخان: 53] فالموت صار شيئا يذاق، صار محبوباً مطلوبا مرغوبا فيه.. لكن لا سبيل إلى الوصول إليه \(\لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى\)\ [طه: 73]، وإنما هو عذاب أليم، وشقاء مقيم.

ثالثا: أن نعلم أن حياة الآخرة أفضل من الحياة الدنيا، لفناء هذه وبقاء تلك \(\بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى\)\.

هذا العلم بالله جلّ جلاله، وهذا العلم بالآخرة هو الذي يتوسع فيه القرآن، وتتسع دائرته، ويُلَح عليه ويُلَخّص تلخيصا، إلى حدّ أنه قد يقتصر في الإيمان على الإيمان بالله واليوم الآخر.

كما في سورة البقرة \(\وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ\)\ [البقرة: 7] فقط ذُكِر من أركان الإيمان هذان الركنان؛ لأنهما الأساس في ضبط حركة الإنسان في هذه الحياة.

الهدى الثاني: رأس العمل العمل بالواجبين: تسبيح ربنا الأعلى، وتذكير خلقه به جل وعلا.

أمران في هذه السورة لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولكل مؤمن ومؤمنة من بعده هما: \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ\)\ \(\فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى\)\.

\(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ\)\ لماذا؟ لأنه \(\الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى\)\ إلخ إلخ

ثم \(\فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى\)\ فهما أمران مطلوبان واجبان على العبد، مطلوب منه أن يقوم بهما: تسبيح ربه الأعلى، وتذكير الناس بالله جل وعلا.

التسبيح هو تنزيه الله جل وعلا عن النقص مطلقا... في الأسماء والصفات والأفعال.. بالجنان واللسان والجوارح.

وإذا حاولتُ أن أذوق التسبيح، قلت: كل ما يتصل بالله جل وعلا يجب علينا ألا نتصور -بوجه من الوجوه- أن به نقصا أو عيبا أو خللا؛ لأن الله سوَّى كل شيء، \(\خَلَقَ فَسَوَّى\)\ كل شيء في الحياة فيه إتقان \(\صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ\)\ [النمل: 90].

كل شيء مرده إلى الله، يجب أن نعتقد جازمين ألا خلل فيه؛ لأن هذا هو الواقع، ومعنى هذا أن الإشكال إنما يجيء منا، لا منه جل جلاله، الإشكال الذي وقع لإبليس -نعوذ بالله منه- هو أنه طَعَن في الحكمة، طعن في التدبير، قال: \(\أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ\)\ [الإسراء: 62]، وقال: \(\أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا\)\ [الإسراء: 61]، وقال: \(\أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ\)\ [الأعراف: 11].

كأنه يقول: ما هذا؟ لماذا أسجد لهذا المخلوق؟ كيف وأنا خير منه؟!

هذا خلل!! هو الذي يجب أن يسجُدَ لي! فطعن في أصل المسألة، لذلك كانت معصيته ليست كمعصية آدم، الذي لم يطعن في أصل الأمر، قال تعالى: \(\وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ\)\ [البقرة: 34] فقال آدم: سمعا وطاعة، ولكنه غُلب \(\فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ\)\ [طه: 117] فأزله \(\وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى\)\ [طه: 118- 119].

أما إبليس فلم يعص الله وكفى، وإنما "أبى" أي رفض، وفَرْق بينهما في المعنى: إبليس أبَى أن يسمع للأمر ورفضه، وآدم استمع إلى الأمر وقبِلَهُ، ولكنه عند التنفيذ ضعف \(\وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا\)\ [النساء: 28].

إبليس رفَضَ الأمر جملةً، وطعن في حكمته أصلاً، ولذلك أُبعِد إلى الأبد كليا.. \(\فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ\)\ [الحجر: 34- 35).

إذن، هذه النقطة: كيف نذوقها؟ أقول: عندما أضع نفسي في الحياة، كل ما جاءني فيها من عند الله عز وجل: نزل قدَر، حدث أمر، نزلت نازلة، لا أتهم الله عز وجل بالظُّلم، أو أقول: إنه أخْطَأ، أو ظلَمَ، ولا أقول: ما هكذا تكون الأمور يا ربّ!! لا أفعل أبدا، بل أنزه الله جل وعلا، على قاعدة \(\أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ\)\ [ال عمران: 165].

الإشكال دائما ليس في جهة الله تعالى، الإشكال في جهتنا نحن المخلوقين، ودواؤه في كلمة يونس عليه السلام \(\لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ\)\ [الأنبياء: 86].

التسبيح ينزه الله تعالى ويجعله بعيدا.. بعيدا جدا.. لا سبيل إلى أن يلصق به عيبٌ، أو ينسب إليه نقص، أو يضاف إليه خلل، سبحانه جل جلاله.

فما جاء من عند الله عز وجل مثلا من شرع، لا سبيل إلى أن نقول عنه: هذا شرع ناقص، وغير صالح، ولا نقارنه بأي دستور أو قانون أو بالشرعية الدولية مثلا. هذا كلام لا معنى له. ما جاء من عند الله هو عينُ الحق، هو عينُ الصواب، ولا سبيل إلى وجود الخلل فيه لا في الحكم ولا في الحكمة، ولا في التشريع، ولا في القضاء والقدر، ولا في غير ذلك، هذه نقطة في غاية الأهمية.

ولذلك فحين نسمع: "وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ -أَوْ تَمْلأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" بماذا تملآن ما بينهما؟ لأن "سُبْحَانَ اللهِ" -مثلا- عمليًّا تنفي وتثبت، عندما نزهتُ الله عن كل نقص، تلقائيا أَثْبتْتُ له كل كمال وكُلّ جمال وكُلَّ جلال، ولكن ذلك يكون حين يقوله كيانك، ويقوله جنانُك، ويقوله لسانُك في التعبير، ويقوله فعلك في التدبير والتسيير، حين يحدث هذا فآنذاك يكون التسبيح الحق؛ لأن اللفظ في القرآن يساوي معناه في الخارج.

فعملُ التسبيح هو العمل المؤسس في الأصل، وينبني على هذا العمل ألا تبقى حيث أنت، بل تنطلق بكيانك تُجاه تذكير الآخر بهذا العمل... \(\فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى\)\.

وسبق الكلام قبل في سورة المدثر بأن هذا التذكير، تذكير بكل شيء، ولكنّ جِماعَه أنه تذكير بهذا القرآن نفسه؛ لأنه ذكر \(\فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ\)\ [ق: 45].

لأن الذكرى هي أساس الذكر، والذكرى لا تحصل إلا بالذكر، والذكر هو القرآن؛ لأنه هو الذكر نفسه \(\وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ\)\ [الحجر: 6].

فالذكر هو القرآن، والتذكير يكون بإيصال هذا القرآن إلى الناس... لأن فيه ما يذكِّر الناس بربهم، ما يذكِّرهم بالعهد الأول لربهم، ما يذكِّرهم بفطرتهم، ما يذكرهم بأصلهم، ما يذكرهم بمآلهم، ما يذكرهم بالغيب والشهادة، ما يذكرهم بكل شيء من الحقائق الضرورية، والأوامر والنواهي الضرورية.

فكل ما يذكرهم بأي شيء، موجود في هذا الذكر الذي هو القرآن، {فذَكِّر} على الإطلاق "ذكر" من؟ مفتوح. "فذكر" وهذا مبني على القاعدة التي سبقت: "خلق" "سوَّى" "قدَّر" "هدَى" ماذا هدى؟ ماذا قدَّر؟ ماذا سوَّى؟. كل هذا مسكوت عنه؛ لأن المقصود هو الفعل.

إذن عمل التذكير يتجلى أساساً في إيصال هذا الدين للناس، ويتجلى في تبليغ هذا القرآن إلى العالم... والناس بعد ذلك صنفان: فمن خَشي تذكّر، ومن شقِي نأى وابتعد، وجعل هذا الأمر على جنبه، ولم يهتمّ به \(\وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى\)\.

الهدى الثالث: رأس التزكي التطهّر من رجسين: رجس الشرك بالله تعالى، ورجس إيثار الدنيا على الآخرة.

الجهل بالله تعالى ذُكِر في الآية كأَنَّ أصْل الهوى نفسه، والشُّبَه والشهوات التي منها يُؤْتى العبد... مردهما إلى الجَهْل في الحقيقة؛ لأن الجهل يناقضه العلم، والعلم يقين يفيد القطع، في أصله اللغوي العربي وفي القرآن الكريم، بمعنى أن الأشياء التي تُعْلم على حقيقتها لابد أن تؤدي إلى نتائجها.

أذكر مثالا للشيخ أبي الأعلى المودودي رحمه الله في مسألة توضيح اليقين وأن العلم لا ينتج طاعة حتى يكونَ يقينا: طفل لم يرَ النار قط، ولما أوقدت نار، رآها جميلة في الشكل ولا علم له بألمها وحريقها، فوضع أصبعه فيها فتألم فأزال أصبعه فورا، بعد ذلك تقول له: ضع أصبعك فيها فيقول: لا أبداً. لماذا؟ لأن الحادثة الأولى أورثته علما بخطورة هذا الكائن الذي اسمه النار، ذلك العلم لم يكن عنده في مستوى الوهم أو في مستوى الظن؛ بل كان عنده في مستوى اليقين القطعي الكامل.

فحين وصل العلم إلى هذه الدرجة، أي صار علما، أنتج طاعة، أنتج ائتماراً وانتهاء، فالذي يحدث للإنسان أنه لا يصحب الآيات القرآنية- أوامرها ونواهيها- الصحبة التي تورثه اليقين.

ورد في حديث حنظلة: "يا رسول الله نكون عندك تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ والجَنّة، حتى كأنا رأي عين" كأننا نشاهدهما، "فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرا..." أي نسينا وغابت عنا الحقائق وما عُدْنا نتذكر، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده إنْ لوْ تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر"، و"في الذكر": أي في تلك الحال التي تكونون وكأنكم تشاهدون الحقائق وترونها عيانا "لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة..." أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-؛ لأننا بتلك الحال نرتقي ارتقاء نبتعد به عن الشهوات، ونقترب من الملائكة، فتأتي الملائكة وقد رأت أشباها لها تأتي لتصافحهم.

وبعكس ذلك حين يتمكن الجهل والنسيان يقع الابتعاد عن الله والاقتراب من الشياطين نعوذ بالله منهم.

فلا رِجز ولا رجس أعظم من عبادة غير الله.

قال الله عز وجل: \(\قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ\)\ [الزمر: 61] أيها الجاهلون الجهل الحقيقي وهو جهل الكفر، فالذي يعبدُ غَيْر الله جاهلٌ حقا؛ لأنه ما ذاق حقيقة وجود الله على وضوحها في هذا الكون \(\أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ\)\ [الطور: 33] \(\أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ\)\ [الطور: 34].

ثم ليس بعد ذلك من رجس أعظم من تقديم العاجلة على الباقية.

نحن لا نقدر هذه الحقيقة حق قدرها للأسف!! ونعيش حياة أشبه ما تكون بحياة الكفار: إيثار الدنيا على الآخرة. لنفكرْ في أحوالنا عمليا، مثلا: لنأخذ أولادنا على سبيل المثال، ما هو الشيء الذي نهتم به في حياتهم؟ نهتم بأكلهم، نهتم بشربهم، نهتم بلباسهم، نهتم بلهوهم ولعبهم، أي نهتم بتغليظ أجسامهم!، نهتم بتكثير شحومهم ولحومهم! نهتم بالجانب المادي فيهم، وقلما نهتم بالجانب المعنوي، بالجانب الروحي، وهو أخطر؛ لأن هذا الأكل الذي نهتم به أكثر من اللازم لم يوجبه الله علينا ولم يفرض علينا أن نمارس الأكل في اليوم ولو مرة واحدة. ولم يفرضه علينا حتى في اليومين أو الثلاثة أو الأربعة إلا عندما نصل إلى حال الإشراف على الهلاك، عند ذلك يجب أن نأكل، لكن غذاء الروح واجبٌ خَمْس مرّات في اليوم، لابد أن تتناول الروح خمس وجبات غذائية في اليوم -على الأقل-؛ لأن قوت الأرواح هو الروح نفسه، أي هو القرآن الذي هو الوحي \(\وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا\)\ [الشورى: 49] \(\وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ\)\ (الإسراء: 85) \(\وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ\)\ [الشورى: 52].

الأرواح تتغذى من عالم الروح، من ذلك العالم نفسه الذي جاء منه القرآن. الروح تتغذى بالقرآن، تتغذى بالوحي.

الصلاة مثلا: ماذا فيها؟ فيها هذا أساسا. سواء ما مضى -كما تعلمون- في الفاتحة التي لابد منها في كل ركعة من ركعات الصلاة، أو الألفاظ التي نكررها في كل حركة من حركات الصلاة: نركع فنقول: سبحان ربي العظيم، وهو من ألفاظ القرآن \(\فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ\)\ [الواقعة: 77] ونقول في السجود: "سبحان ربي الأعلى" سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى\)\ ونقول: "الله أكبر" في القيام، ونقولها في الهُوِيِّ إلى الركوع وإلى السجود. كل هذه من ألفاظ القرآن، ولا نقول ذلك ألفاظا بل نقولها معاني. ينبغي أن نستحضر في التسبيح التنزيه، وينبغي أن نستحضر في التكبير تصغير ما سوى الله، والتصغير من شأن الدنيا وما فيها. وهكذا، وهكذا...

فإذن هذا الأمر أخطر، والاهتمام به أقل... هو أخطر على الإنسان والاهتمام به أقل، وأطفالنا وأولادنا بين الميلاد والبلوغ في مرحلة انتقالية تحضيرية لما بعد البلوغ؛ فإذا اجتهدنا في ترسيخ معان بعينها إيمانية، تذكروا بسرعة عند البلوغ، تذكروا الفطرة الأولى بسرعة بعد البلوغ؛ لأنهم نشأوا في عبادة الله عز وجل، لكن إذا نشِّئُوا بالمعصية يصعب التذكر، وكما قال القائل: من شَبَّ على خُلُق شاب عليه، إلا أن يشاء الله شيئا سبحانه، فهذا هكذا.

ثم عندما أيضا نأتي إلى أمر الحياة.

وعندما نحاول أن نتحدث عن المستقبل، ماذا تريد أن يكون ابنك؟ فالجواب العام والغالب هو أريده طبيبا، مهندساً، محاميا، ونعوّد أطفالنا على هذه الاختيارات الدنيوية! وقَلّ من يختار أن يكون إماما من أئمة الهدى داعياً إلى الله عز وجل، مجاهداً، شاهدا على الناس...

أعني: قلّ من تأتيه المعاني الشرعية، المعاني التي اختار الله لها خيرة خلقه: معنى الشهادة على الناس، معنى العلم بالله. هذه المعاني التي لها امتداد فيما بعد هذه الدنيا، المعاني الخالدة. هذه المعاني ذات الآثار الخالدة. هذه المعاني قلَّما تُذْكر، وإذا ذُكِرَتْ أحيانا يُهَوَّنُ من شأنها.

فنحن بهذا شعرنا أم لم نشعر كأننا نحطم أبناءنا، كأننا نحضر أبناءنا للحياة الدنيا ونجعلهم يوثرونها على الآخرة، وكأننا بذلك نغرس فيهم قيمة هذه الدنيا ونقول لهم: يجب أن نستمتع بها، يجب أن نحياها، عندنا مال كثير، عندنا صحة كبيرة، عندنا جاه، عندنا كذا، عندنا كذا...

نهتم بهذه الأشياء، في حين أن تلك مجرد وسائل.. تلك وسائل تستعمل لشيء آخر أهم، وهو تعمير الدنيا من أجل الآخرة، وعبادة الله عز وجل، كل هذه الأشياء التي أوتيناها ما هي إلا وسائل لعبادة الله عز وجل، وليست مطلوبة لذاتها.

هكذا الأمر في العلم، وهكذا الأمر في المال، وهكذا الأمر في غير ذلك من الأمور التي نسأل عنْها "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه".

فهذه النقطة وقفت عندها لخطورتها، وهي في حقيقتها رجس من الرجس، استعملت هذا التعبير لنشعر بخطورة هذه الخطيئة، هذا المنكر منكر كُبّار: إيثار الدنيا على الآخرة، هذا هو منهج الكفار. أما منهج المؤمنين فهو إيثار الآخرة على الدنيا، إيثار الآجلة على العاجلة... الكفار يقال لهم \(\أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا\)\ [الأحقاف: 19] \(َن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16)\)\ [هود: 15- 16].

الهدى الرابع: رأس العطايا التنعم بعطيتين: إقراؤك القرآن بلا نسيان، وتيسيرك لليسرى في كل شأن.

هذه السورة فيها عطيتان: هديتان لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- من ربه، وهدية لكل تابع لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- من ذكر أو أنثى. طلب منه أمرين: \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى\)\ \(\فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى\)\ وأعطاه عطيتين: \(\سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى\)\ \(\وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى\)\.

هاتان الهديتان العطيتان، والمنتان العظيمتان، هما أعظم ما يمكن أن يُمَنّ به على العبد: أن يُقْرَأ القرآن، يعني أن يُدْخَل هذا العلم القلب، وأن يستضيء به الكيان... وأن تتأثر به جميع الجوارح.

تجد القرآن في العين، وتجد القرآن في الأذن، تجد القرآن في العين وهي تبصر ماذا تبصر؟ وكيف تُبصر؟ والأذن كذلك ماذا تسمع؟ والفم ماذا يأكل؟ وبأي شيء ينطق؟ والظهر ماذا يلبس؟.. إلخ

هذا هو إقراء العبد القرآن، هذا هو القرآن الذي يقال لصاحبه: "اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدّنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها".

هذا القرآن، ليس هو القرآن الذي يجري على اللسان ولا يستقر في الجنان، ولا يؤثر في جميع الجوارح.

"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين".

أهل القران هم الذين يعملون به في الدنيا، وهم الذين يكون القرآن حجة لهم لا عليهم. نسأل الله أن يجعلنا كذلك. إقراء القرآن للعبد \(\سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى\)\هو العلم الذي وهبه الله سبحانه وتعالى لرسوله –صلى الله عليه وسلم- \(\وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا\)\ [طه: 111] زدني.. يمتلئ علما، ويمتلئ فهما لذلك العلم.

فهذه النعمة الأولى التي أشار إليها الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل علّمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل به".

ولا يمكن أن يفعل هذا وهو طالب دنيا.

فالقيام بالقرآن من أجل تدبره، من أجل الامتلاء به، من أجل أن يستضيء الكيان به. هذا هو الأصل. والإقراء هو النعمة التي ينتج عنها كل خير.

ثم العطية الثانية هي التيسير لليسرى في كل شأن، التيسير الذي ينتهي بالحُسنى في الدنيا والآخرة.

الله عز وجل يوضح هذه العطية بأنه يريد بعبده الذي يسبحه ويحمده، ويسبح باسم ربه الأعلى أن ييسر له السبل الموصلة إلى خيري الدنيا والآخرة.

فالتيسير هو عون من الله جلّ وعلا، تيسير في الهداية وتيسير في الممارسة، وتيسير في الكلفة، وتيسير في كل شيء.

فهاتان النعمتان العظيمتان، هديتان من الله عز وجل لعبده الذي يسبح باسمه؛ يقرئه، وييسر له السبل الموصلة لخيري الدنيا والآخرة. فمن اتقى وسار على نهج التسبيح الحقّ، أقرأه الله برحمة منه، ويسر له كل شيء. وهذا منطقي؛ فحين قال سيدنا موسى –عليه السلام- لله عز وجل \(\قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)\)\ [طه: 24- 31]. أجابه الله تعالى جوابا فتح به الباب على جميع النعم التي أنعم بها على موسى –عليه السلام-، منذ ولد حتى أرسل \(\قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)\)\ [طه: 35- 41]. بمعنى أن الله عز وجل حين تقتضي حكمته اختيار عبد، فإنه يمُنُّ على ذلك العبد بما يسهل له القيام بتلك الوظيفة، على أساس ذلك الاختيار.

الهدى الخامس: رأس الفلاح أو الخسران: التذكر والاتباع لما في القرآن أو التجنب والإعراض عما في القرآن:

إذن المدار على القرآن. \(\قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى\)\ هذا طريق الفلاح، \(\وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى\)\هذا طريق الخسران.

لذلك رأس الفلاح التذكر واتباع ما في القرآن \(\قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى\)\.

ورأس الخسران التجنب: إلقاء القرآن على الجنب، والابتعاد والنأي عنه، والإعراض عما فيه.

ولا يتبع ما في القرآن إلا السعداء، ولا ينأى عما في القرآن إلا الأشقياء... جعلنا الله وإياكم من السعداء.

خـــلاصة هدى السورة

هدى السورة باختصار شديد هو:

أولا: عليك التسبيح والتذكير، وعلى الله الإقراء والتيسير:

عليك بالتسبيح والتذكير يا عبد الله، \(\سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى\)\، \(\فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى\)\.

وعلى الله الإقراء والتيسير، \(\سَنُقْرِؤُكَ فَلا تَنسَى\)\ \(\وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى\)\.

ثانيا: عبارة من ابن عاشر -رحمه الله-: "رأس الخطايا هو حب العاجلة":

حب الدنيا هو رأس البلاء، ورأس المصائب؛ لأن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حينما شخص حال الأمة في فترة الضعف شخصها بهذا: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها...

" إلى أن قال –صلى الله عليه وسلم-: "بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".

كراهية الموت نفسها بسبب حب الدنيا. لذلك حب الدنيا هو رأس البلاء، هو الخطر الشديد.

بمعنى آخر: لماذا نحن فيما نحن فيه الآن؟ وعلى الحال التي نحن عليها مغضوبا علينا من الله عز وجل؟

لماذا؟

لماذا سُلِّط علينا المغضوب عليهم؟

إنما ذلك بسبب حبنا للدنيا.

هذا الوهن الذي هو مسلط علينا في الكرة الأرضية، هذا الضعف، هذا الفشل، هذا الخور، هذا الجبن الذي نحن فيه، بسبب ماذا؟ بسبب حب الدنيا وكراهية الموت...

لننظر عمليا كم ننفق في سبيل الله؟ كم ننفق من الوقت في سبيل الله؟ كم ننفق من المال في سبيل الله؟ كم ننفق من الطاقة في سبيل الله؟

بالنسبة المئوية: ما الذي نصرفه إلى الدنيا، وإلى الزيادة من زينة الحياة الدنيا، وما الذي نصرفه إلى الآخرة، وإلى نصرة دين الله عز وجل؟ كل واحد يسائل نفسه ويُحاسبها. لو أعطينا ما ينبغي أن نعطيه كما أمر الله عز وجل، لرأينا النتائج كما ينبغي أن تُرى. لذلك صدق الناظم فعلا حين قال:

رأس الخطايا هو حب العاجلة

ثالثا: من ابن عاشر أيضا رحمه الله:

ليس الدواء إلا في الاضطرار له

المخرج إذن هو العودة إلى الله عز وجل، والتوبة والإنابة إلى الله عز وجل؛ إنابة الاضطرار، إنابة الافتقار التام إليه سبحانه عز وجل. هذا هو، المخرج. فالله عز وجل يجيب المضطر إذا دعاه.

فنسأله جل وعلا أن يعيذنا من شر كل ذي شر، ويكفينا ما أهمنا وما لا نهتم له، ويجعلنا من أهل القرآن الكريم الذين يعملون به في الدنيا. اللهم أكرمنا بتسبيحك، وأكرمنا بتذكير عبادك بك، بجودك وكرمك. اللهم أقرئنا القرآن، ويسرنا لليسرى، ويسر لنا اليسرى، بفضلك وكرمك يا ربنا.