ثم ساق - سبحانه - لونا آخر من تحريضهم على الجهاد وهو تحديد الهدف يقاتل من أجله كل فريق فقال : { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } اى أنتم - أيها المؤمنون - إذا قاتلتم فإنما تقاتلون وغياتكم إعلاء كلمة الله ، ونصرة الحق الذى جاء به رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم . أما أعداؤكم الكافرون فإنهم يقاتلون من أجل طاعة الشيطان الذى يأمرهم بكل بغى وطغيان ، وإذا كان هذا حالكم وحالهم فعليكم - أيها المؤمنون - أن تقاتلوا أولياء الشيطان بكل قوة وصدق عزيمة { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أى . إن كيد الشيطان وتدبيره كان ضعيفا ، لأن الشيطان ينصر أولياءه ، والله - تعالى - ينصر أولياءه ، ولا شك أن نصرة الله - تعالى لأوليائه أقوى وأشد من نصرة الشيطان لأوليائه .
فقوله - تعالى - { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم فى الجهاد ببيان الغاية والهدف الذى يعمل من أجله كل فريق ، وببيان أن المؤمنين ستكون عاقبتهم النصر والفظر لأن الله وليهم وناصرهم .
والفاء فى قوله { فقاتلوا } للتفريع ، أى إذا كانت تلك غايتكم أيها المؤمنون وتلك هى غاية أعدائكم ؛ فقاتلوهم بدون خوف أو وجل منهم لأن الله معكم بنصره وتأييده أماهم فالشيطان معهم بضعفه وفجوره .
والمراد بكيد الشيطان تدبيره ووسوسته لأتباعه بالاعتداء على المؤمنين وتأليب الناس عليهم .
قال الفخر الرازى : الكيد : السعى فى فساد الحال على جهة الاحتيال عليه ، يقال : كاده يكيده إذا سعى فى إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه . وفائدة إدخال { كَانَ } فى قوله { ضَعِيفاً } للتأكيد لضعف كيده ، يعنى أنه منذ كان ، كان موصوفا بالضعف والذلة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاث قد شجعت المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب ، وأشرف دافع ، وأنبل غاية ، فقد أمرتهم بالقتال إذا كانوا حقا من المؤمنين ، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وبشرتهم برضا الله وحسن ثوابه سواء أقتلوا أم غلبوا واستنكرت عليهم أن يتثاقلوا عن القتال مع أن كل دواعى الدين والشرف والمروءة تدعوهم إليه ، وبينت لهم أنه إذا كان الكافرون الذين الغاية من قتالهم نصرة الحق أن ينفروا خفاها وثقالا للجهاد فى سبيل الله ، ثم بشرتهم فى النهاية بأن العاقبة لهم ، لأن الكافرين يستندون إلى كيد الشيطان الضعيف الباطل ، أما المؤمنون فيأوون إلى جناب الله الذى لا يخذل من اعتصم به ، ولا يخيب من التجأ إليه .
وبعد هذا التحريض الشديد من الله - تعالى - للمؤمنين على القتال فى سبيله ، حكى - سبحانه - على سبيل التعجيب حال طائفة من ضعاف الإِيمان ، كانوا قبل أن يفرض القتال عليهم يظهرون التشوق إليه . وبعد أن فرض عليهم جبنوا عنه ، وقد وبخهم الله - تعالى -على هذا المسلك الذميم ، فقال - سبحانه - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى . . . . عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } .
{ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } فيما يصلون به إلى الله سبحانه وتعالى . { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } فيما يبلغ بهم إلى الشيطان . { فقاتلوا أولياء الشيطان } لما ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه أن يقاتلوا أولياء الشيطان ثم شجعهم بقوله : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } أي إن كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد الله سبحانه وتعالى للكافرين . ضعيف لا يؤبه به فلا تخافوا أولياءه ، فإن اعتمادهم على أضعف شيء وأوهنه .
معنى { في سبيل الله } لأجل دينه ولمرضاته ، فحرف ( في ) للتعليل ، ولأجل المستضعفين ، أي لنفعهم ودفع المشركين عنهم .
و ( المستضعفون ) الذين يعدّهم الناس ضعفاء ، ( فالسين والتاء للحسبان ، وأراد بهم من بقي من المؤمنين بمكة من الرجال الذين منعهم المشركون من الهجرة بمقتضى الصلح الذي انعقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سفير قريش سهيل بن عمرو ؛ إذ كان من الشروط التي انعقد عليها الصلح : أنّ من جاء إلى مكة من المسلمين مرتداً عن الإسلام لا يردّ إلى المسلمين ، ومن جاء إلى المدينة فارّاً من مكة مؤمناً يردّ إلى مكة . ومن المستضعفين الوليد بن الوليد . وسلمة بن هشام . وعيّاش بن أبي ربيعة . وأمّا النساء فهنّ ذوات الأزواج أو ولايى الأولياء المشركين اللائي يمنعهنّ أزواجهنّ وأولياؤهنّ من الهجرة : مثل أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيط ، وأمّ الفضل لبابَة بنت الحارث زوج العباس ، فقد كنّ يؤذَيْن ويحقَّرْن . وأمّا الوِلدَانُ فهم الصغار من أولاد المؤمنين والمؤمنات ، فإنّهم كانوا يألَمون من مشاهدة تعذيب آبائهم وذويهم وإيذاء أمّهاتهم وحاضناتهم ، وعن ابن عباس أنّه قال : كنتُ أنا وأميّ من المستضعفين .
والقتال في سبيل هؤلاء ظاهر ، لإنقاذهم من فتنة المشركين ، وإنقاذ الولدان من أن يشبّوا على أحوال الكفر أو جهل الإيمان .
والقرية هي مكّة . وسألوا الخروج منها لِما كدّر قدسها من ظلم أهلها ، أي ظلم الشرك وظلم المؤمنين ، فكراهية المقام بها من جهة أنّها صارت يومئذٍ دار شرك ومناواة لدين الإسلام وأهلِه ، ومن أجل ذلك أحلّها الله لرسوله أن يقاتل أهلها ، وقد قال عباس بن مرداس يفتخر باقتحام خيل قومه في زمرة المسلمين يوم فتح مكة :
شَهِدْنَ مع النبيء مُسَوّمَاتٍ *** حُنَيْناً وهي دَامية الحَوامي
وَوقْعَةَ خَالدٍ شَهِدَتْ وحَكَّتْ *** سَنَابِكَها على البَلَدِ الحرام
وقد سألوا من الله وليّاً ونصيراً ، إذْ لم يكن لهم يومئذٍ وليّ ولا نصير فنصرهم الله بنبيئه والمؤمنين يوم الفتح .
وأشارت الآية إلى أنّ الله استجاب دعوتهم وهيّأ لهم النصر بيد المؤمنين فقال : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } ، أي فجنّد الله لهم عاقبة النصر ، ولذلك فرّع عليه الأمر بقوله : { فقاتلوا أولياء الشيطان إنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً } .
والطاغوت : الأصنام . وتقدّم تفسيره في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبتِ والطاغوت } في هذه السورة [ النساء : 5 ] ، وقوله : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء : 60 ] .
والمراد بكيد الشيطان تدبيره . وهو ما يظهر على أنصاره من الكيد للمسلمين والتدبير لتأليب الناس عليهم ، وأكّد الجملة بمؤكّدين ( إنّ ) ( وكان ) الزائدة الدالة على تقرّر وصف الضعف لكيد الشيطان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.