ولم يطل انتظار هود عليهم ، فقد حل بهم العقاب الذي توعدهم به سريعا ولذا قال - تعالى - : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } الفاء فصيحة . أى : فوقع ما وقع فأنجينا هودا والذين اتبعوه في عقيدته برحمة عظيمة منا لا يقدر عليها غيرنا .
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أى : استأصلناهم عن آخرهم بالريح العقيم التي { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } فقطع الدابر كناية عن الاستئصال والاهلاك للجميع يقال قطع الله دابره أى : أذهب أصله .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم - كمرثد بن سعد - ومن نجا مع هود - عليه السلام - كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أن الهلاك للمكذبين ونجى الله المؤمنين " .
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وتحقق النذير في قوم هود كما تحقق قبل ذلك في قوم نوح .
{ فأنجيناه والذين معه } في الدين . { برحمة منا } عليهم . { وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا } أي استأصلناهم . { وما كانوا مؤمنين } تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان . روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودا فكذبوه ، وازدادوا عتوا فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح ، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم و أكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يُسقينا الغماما
فيُسقي أرض عاد أن عادا *** قد امسوا ما يُبينُون الكلاما
حتى غنتا به ، فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك . فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا : { هذا عارض ممطرنا } فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا .
والضمير في قوله «أنجيناه » عائد على «هود » أي أخرجه الله سالماً ناجياً مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله ، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا { وقطعنا دابر } استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك ، و «الدابر » الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم : فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله { كذبوا بآياتنا } دال على المعجزة وإن لم تتعين لها .
الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هوداً والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هوداً إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه ، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : { والذين معه } . والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هوداً ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتاً لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمناً طويلاً لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه : { أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] فهو ظاهر في أنّ عاداً وثموداً كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب .
وقوله : { برحمة منا } الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير { رحمة } للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( مِنَّا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
وتفسير قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } نظير قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة الأنعام ( 45 ) ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعاً ولم يبق منهم أحد . والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح آنفاً ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .
{ وما كانوا مؤمنين } عطف على { كذّبوا } فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضاً بمشركي قريش ، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيراً أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعاً لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعداداً لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأنجيناه}، يعني هودا، {والذين معه} من المؤمنين، {برحمة منا}، يعني بنعمة منا من العذاب، {وقطعنا دابر}، يعني أصل القوم {الذين كذبوا بآياتنا}، يعني بنزول العذاب، {وما كانوا مؤمنين}، يعني مصدقين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...يقول تعالى ذكره: فأنجينا هودا والذين معه من أتباعه على الإيمان به والتصديق به وبما دعا إليه من توحيد الله وهجر الآلهة والأوثان "برَحْمَةٍ مِنّا وقَطَعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا "يقول: وأهلكنا الذين كذّبوا من قوم هود بحججنا جميعا عن آخرهم، فلم نبق منهم أحدا... قال ابن زيد، في قوله: "وَقَطَعْنا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا" قال: استأصلناهم..." وَما كانُوا مُؤمِنِينَ" يقول: لم يكونوا مصدّقين بالله ولا برسوله هود...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين معه برحمة منا} إن حكم الله أنه إذا أهلك قوما إهلاك تعذيب استأصلهم، وأنجى أولياءه، ونصرهم... {برحمة منا} يحتمل قوله تعالى برحمته التي هداهم عز وجل ولولا رحمته ما اهتدوا، لكنه أنجاهم برحمته وفضله، والله أعلم. وفيه أن من نجا برحمته وفضله، وإن كان رسولا، لا باستيجاب منه النجاة...
{الذين كذّبوا بآياتنا} ولم يبين لنا آياته التي أعطى هودا، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى ما أخبر ما أحل بتكذيبهم الرسول؛ وذلك كان سنة وحكمة في الأمم السالفة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...في هذه الآية إخبار من الله تعالى أنه أنجى هودا والذين آمنوا معه برحمة منه، والإنجاء: التخليص من الهلاك، وأصله من النجوة وهي الارتفاع من الأرض، والنجاء: السرعة في السير، لأنه ارتفاع فيه بالإسراع...
" وقطعنا "فالقطع هو: إفراد الشيء عن غيره مما كان على تقدير الاتصال به، فلما أفردوا بالهلاك عما كان على تقدير التبع لهم من نسلهم وآثارهم من بعدهم كان قد قطع دابرهم...
والدابر: الكائن خلف الشيء، ونقيضه القابل...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
..لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة. وأخبر -سبحانه- أنه نجَّى هوداً برحمته، وكذلك نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعْلَمَ أنَّ النجاةَ لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون بابتداء فضلٍ من الله ورحمته؛ فما نَجَا مَنْ نجا إلا بفضل الحق سبحانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم... ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أنّ الهلاك خصّ المكذبين، ونجى الله المؤمنين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وقطعنا دابر} استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك، و «الدابر» الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم: فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله {كذبوا بآياتنا} دال على المعجزة وإن لم تتعين لها.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{وما كانوا مؤمنين}... تنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما كان هذا ينبغي أن يكون سبباً للتصديق الذي هو سبب الرحمة، بين أنه إنما سبب لهم العذاب، وله ولمن تبعه النجاة، فبدأ بالمؤمنين اهتماماً بشأنهم بقوله: {فأنجيناه} أي بما لنا من العظمة إنجاء وحيّاً سريعاً سللناهم به من ذلك العذاب كسل الشعرة من العجين {والذين معه} أي في الطاعة، وأشار إلى أنه لا يجب على الله شيء بقوله: {برحمة} أي بإكرام وحياطة {منا} أي لا بعمل ولا غيره. ولما قدم الإنجاء اهتماماً به، أتبعه حالهم فقال معلماً بأن أخذه على غير أخذ الملوك الذين يعجزون عن الاستقصاء في الطلب، فتفوتهم أواخر العساكر وشذاب الجنود والأتباع {وقطعنا} دابرهم أي آخرهم، هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر تصريحاً بالمقصود وبياناً لعلة أخذهم فقال: {دابر} أي آخر، أي استأصلنا وجعلنا ذلك الاستئصال معجزة لهود عليه السلام {الذين كذبوا بآياتنا} أي ولم يراقبوا عظمتها بالنسبة إلينا وقوله: {وما كانوا} أي خلقاً وجبلة {مؤمنين}... وهي جارية مجرى التعليل لأخذهم مؤذنة بأنه162 لا يحصل منهم صلاح كما ختم قصة نوح بقول {إنهم كانوا قوماً عمين} [الأعراف: 64] تعليلاً لإغراقهم، أي أنا قطعنا دابرهم وهم مستحقون لذلك، لأنهم غير قابلين للإيمان لما فيهم من شدة العناد ولزوم الإلحاد، فالمعنى: وما كان الإيمان من صفتهم، أي ما آمنوا في الماضي ولا يؤمنون في الآتي، فيخرج منه من آمن وكان قد كذب قبل إيمانه ومن لم يؤمن في حال دعائه لهم وفي علم الله أنه سيؤمن، ويزيده حسناً أنهم لما افتتحوا كلامهم بأن نسبوه إلى السفاهة كاذبين؛ ناسب ختم القصة بأن يقلب الأمر عليهم فيوصفوا بمثل ذلك صدقاً بكلام يبين أن اتصافهم به هو الموجب لما فعل بهم، لأن الإيمان لا يصدر إلا عن كمال الثبات والرزانة وترك الهوى وقمع رعونات النفس والانقياد لواضح الأدلة وظاهر البراهين، فمن تركه مع ذلك فهو في غاية الطيش والخفة وعدم العقل، وأيضاً فوصفهم بالتكذيب بالفعل الماضي لا يفهم دوامهم على تكذيبهم، فقال سبحانه ذلك لنفي احتمال أنهم آمنوا بعد التكذيب وأن أخذهم إنما كان لمطلق صدور التكذيب منهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وما كان من بعد هذا إلا العقاب، فنزل بهم عذاب ساحق أهلكهم الله تعالى، وأنجى الله تعالى هودا ومن معه من المؤمنين؛ ولذا قال تعالى: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا} وترى التشابه التام، بين ما لقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين، وبين ما لقى نوح، وهود، من قبله – عليهم الصلاة والسلام – وإن ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصبر، ويحمل التبعة، وشدائدها فإن تلك سنة الله مع الدعاة؛ والذين يدعونهم، وما كنت بدعا من الرسل...