التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (72)

وبعد أن بين - سبحانه - أنماطا من قبائح اليهود ومن صفاتهم الذميمة شرع في بيان قبائح النصارى وضلالاتهم وأرشدهم إلى طريق الحق والصواب ، وحذرهم من السير في طريق الغواية والعناد فقال - تعالى :

{ لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما استقصى الكلام مع اليهود ، شرع ههنا في الكلام مع النصارى ، فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا : إن الله هو المسيح بن مريم .

وهذا هو قول اليعقوبية ؛ لأنهم يقولون : إن مريم ولدت إلها ، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون : إن الله - تعالى - حل في ذات عيسى واتحد بذات عيسى .

واللام في قوله : { لَقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر .

والمراد بالكفر : ستر الحق وإنكاره والانغماس في الباطل والضلال .

أي : اقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا : إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح ابن مريم .

وقد أكد - سبحانه - كفرهم بالقسم المقدر ؛ لأنهم غالوا في إطراء عيسى وفي وضعه في غير موضعه كما غالت اليهود في الكفر به وفي وصفه بالأوصاف التي هو برئ منها .

ثم حكى - سبحانه - ما قاله عيسى في الرد على من جعلوه إلها فقال : { وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } .

أي : وقال المسيح مكذبا لمن وصفه بالألوهية : يا بني إسرائيل اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً ، فهو ربي الذي خلقني وتهدني بالتربية والرعاية ، وهو ربكم - أيضاً - الذي أنشأكم وأوجدكم ورزقكم من الطيبات .

والواو في قوله : { وَقَالَ المسيح } للحال . والجملة حالية من الواو التي هي فاعل { قالوا } .

أي : قالوا ما قالوا ، والحال أن عيسى قد تبرأ مما قالوه . وقال لبني إسرائيل حين إرساله إليهم : اعبدوا الله ربي وربكم .

وقوله : { رَبِّي وَرَبَّكُمْ } تنبيه إلى ما هو الحجة القاطعة على فساد قولهم المذكور ؛ لأن عيسى لم يفرق بينه وبين غيره في العبودية لله - تعالى - لأنه - سبحانه - هو الخلاق له ولهم وللكل شيء .

ثم حكى - سبحانه - ما قاله عيسى محذراً من الإِشراك فقال : { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } .

وهذه الجملة تعليل للأمر بعبادة الله وحده . والضمير المقترن بإن ضمير الشأن والمراد بتحريم الجنة على المشرك : منعه من دخولها ، لإِشراكه مع الله آلهة أخرى .

والمأوى : المكان الذي يأوى إليه الإِنسان . أي يرجع إليه ويستقر فيه .

أي : قال المسيح لبني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ، لأنه أي الحال والشأن { مَن يُشْرِكْ بالله } شيئاً في عبادته - سبحانه - { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة } أي : منعه من دخولها ، بسبب شركه وكفره ، وجعل { وَمَأْوَاهُ النار } أي : جعل مستقره ومكانه النار بدل الجنة { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ينصرونهم بأن ينقذوهم مما هم فيه من بلاء وشقاء مقيم .

فالجملة الكريمة تحذير شديد من الإِشراك بالله ، وبيان لما سيؤول إليه حال المشركين من تعاسة وشقاء .

وجمع - سبحانه - بين العقوبة السلبية للمشركين وهي حرمانهم من الجنة وبين العقوبة الإِيجابية وهي استقرارهم في النار ، للإِشارة إلى عظيم جرمهم حيث أشركوا بالله ، وتقولوا عليه الأقاويل الباطلة التي تدل على جهلهم وسفاهتهم .

والمراد بالظالمين : المشركون الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم فتكون ال للعهد .

ويجوز أن يراد بهم كل ظالم بسبب إشراكه وكفره ويدخل فيه هؤلاء دخولا أوليا فتكون أل للجنس .

وقال - سبحانه - { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } بصيغة الجمع لكلمة " أنصار " وبالتأكيد بمن المفيدة للاستغراق ، للإِيذان بأنه إذا كان الظالمون لن يستطيع الأنصار مجتمعين أن ينصروهم فمن باب أولى لن يستطيع واحد أن ينصرهم .

أي : ما لهم من أحد كائنا من كان أن يننقذهم من عقاب الله بأي طريقة من الطرق .

وهذه الجملة الكريمة يحتمل أن تكون من كلام عيسى الذي حكاه الله عنه - كما سبق أن ذكرنا - ويحتمل أن تكون من كلام الله - تعالى - وقد ساقها - سبحانه - لتأكيد ما قاله المسيح من أمره لقومه بعبادة الله وحده ولتقرير مضمونه المفيد للتحذير من الإِشراك .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (72)

يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى ، من الملكية واليعقوبية والنسطورية ، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا .

هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله ، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } ولم يقل : أنا الله ، ولا ابن الله . بل قال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } إلى أن قال : { وإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ مريم : 30 - 36 ] .

وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته ، آمرًا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَالَ الْمَسِيح ُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أي : فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } أي : فقد أوجب له النار ، وحرم عليه الجنة ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] ، وقال تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الأعراف : 50 ] .

وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس : " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة " ، وفي لفظ : " مؤمنة " . {[10134]}

وتقدم في أول سورة النساء عند قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ، 116 ] حديث يزيد{[10135]} بن بَابَنُوس عن عائشة : الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانًا لا يغفره{[10136]} الله ، وهو الشرك بالله ، قال الله تعالى : { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ] }{[10137]} الحديث في مسند أحمد . {[10138]}

ولهذا قال [ الله ]{[10139]} تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي : وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه .


[10134]:صحيح مسلم برقم (111).
[10135]:في أ: "زيد".
[10136]:في أ: "لا يغفر".
[10137]:زيادة من أ.
[10138]:المسند (6/240).
[10139]:زيادة من أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِيحُ ٱبۡنُ مَرۡيَمَۖ وَقَالَ ٱلۡمَسِيحُ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمۡۖ إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ} (72)

استئناف ابتدائي لإبطال ما عليه النّصارى ، يناسب الانتهاء من إبطال ما عليه اليهود .

وقد مضى القول آنفاً في نظير قوله { لقد كفر الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابنُ مريم قل فمن يملك من الله شيئاً } [ المائدة : 17 ] ومَن نُسب إليه هذا القولُ من طوائف النّصارى .

والواو في قوله { وقال المسيح } واو الحال . والجملة حال من { الّذين قالوا إنّ الله هو المسيح } ، أي قالوا ذلك في حال نِداء المسيح لبني إسرائيل بأنّ الله ربّه وربّهم ، أي لا شبهة لهم ، فهم قالوا : إنّ الله اتّحد بالمسيح ؛ في حال أنّ المسيح الّذي يزعمون أنهم آمنوا به والّذي نسبوه إليه قد كذّبهم ، لأنّ قوله : { ربّي وربّكم } ، يناقض قولهم : { إنّ الله هو المسيح } ، لأنّه لا يكون إلاّ مربُوباً ، وذلك مفاد قوله : { ربّي } ، ولأنّه لا يكون مع الله إله آخر ، وذلك مفاد قوله { وربَّكم } ، ولذلك عُقّب بجملة { إنّه مَن يشرك بالله فقَد حرّم الله عليه الجنَّة } . فيجوز أن تكون هذه الجملة حكاية لكلام صدر من عيسى عليه السّلام فتكون تعليلاً للأمر بعبادة الله . ووقوع ( إنّ ) في مثل هذا المقام تغني غَناء فاء التّفريع وتفيد التّعليل . وفي حكايته تعريض بأنّ قولهم ذلك قد أوقعهم في الشرك وإن كانوا يظنّون أنّهم اجتنبوه حذراً من الوقوع فيما حذّر منه المسيح ، لأنّ الّذين قالوا : إنّ الله هو المسيح . أرادوا الاتّحاد بالله وأنّه هو هُو . وهذا قول اليعاقبة كما تقدّم آنفاً ، وفي سورة النّساء . وذلك شرك لا محالة ، بل هو أشدّ ، لأنّهم أشركوا مع الله غيره ومزجوه به فوقعوا في الشّرك وإن راموا تجنّب تعدّد الآلهة ، فقد أبطل الله قولهم بشهادة كلام من نسبوا إليه الإلهية إبطالاً تامّاً .

وإن كانت الجملة من كلام الله تعالى فهو تذييل لإثبات كفرهم وزيادة تنبيه على بطلان معتقدهم وتعريض بهم بأنّهم قد أشركوا بالله من حيث أرادوا التّوحيد . والضّمير المُقترن بإنّ ضمير الشأن يدلّ على العناية بالخبر الوارد بعده . ومعنى { حَرّم الله عليه الجَنّة } منعها منه ، أي من الكون فيها .

والمأوى : المكان الّذي يأوى إليه الشيء ، أي يرجع إليه .

وجملة { وما للظّالمين من أنصار } يحتمل أيضاً أن تكون من كلام المسيح عليه السلام على احتمال أن يكون قوله : { إنّه من يشرك بالله } من كلامه ، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تذييلاً لكلام المسيح على ذلك الاحتمال ، أو تذييلاً لكلام الله تعالى على الاحتمال الآخر . والمراد بالظّالمين المشركون { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ، أي ما للمشركين من أنصار ينصرونهم لينقذوهم من عذاب النّار .

فالتّقدير : ومأواه النّار لا محالة ولا طمع له في التّخلّص منه بواسطة نصير ، فبالأحرى أن لا يتخلّص بدون نصير .