التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

وقوله : { وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } من جملة ما يقولونه - أيضا - عند استوائهم على ظهور السفن والإِبل .

أى : تقولون إذا استويتم عليه : سبحان الذى لنا هذا المركب الصعب ، وما كنا بقادرين على تذليله لولا أن الله - تعالى - وفقنا لذلك ، وإنا إلى ربنا وخالقنا لراجعون يوم القيامة ، لكى يحاسبنا على أعمالنا ، ويجازينا عليها بجزائه العادل .

هذا ، وقد ذكر الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات ، جملة من الأحاديث ، منها ما رواه مسلم وأبو داود والنسائى . . " عن عبد الله بن عمر أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } . ثم يقول : اللهم إنى أسألك فى سفرى هذا البر والتقوى . ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر . واطولنا البعيد . اللهم أنت الصاحب فى السفر . والخليفة فى الأهل . اللهم اصحبنا فى سفرنا . واخلفنا فى أهلنا " .

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ذكرت أنواعا متعددة من مظاهر قدرة الله - تعالى - ، ومن رحمته بعباده ، لكى يخلصوا له العبادة والطاعة .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

{ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } أي : لصائرون إليه بعد مماتنا ، وإليه سيرنا الأكبر . وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على [ الزاد ] {[25999]} الأخروي في قوله : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } [ البقرة : 197 ] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ] } [ الأعراف : 26 ] .

ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة :

حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه :

قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا شريك بن عبد الله ، عن أبي إسحاق ، عن علي بن ربيعة قال : رأيت عليا ، رضي الله عنه ، أتى {[26000]} بدابة ، فلما وضع رجله في الرِّكاب قال : باسم الله . فلما استوى عليها قال : الحمد لله ، { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } ثم حمد الله ثلاثا ، وكبر ثلاثا ، ثم قال : سبحانك ، لا إله إلا أنت ، قد ظلمت نفسي فاغفر لي . ثم ضحك فقلت له : من أي شيء ضحكت {[26001]} يا أمير المؤمنين ؟ فقال : رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت {[26002]} ، ثم ضحك . فقلت : مم ضحكت يا رسول الله ؟ فقال : " يعجب الرب{[26003]} من عبده إذا قال : رب اغفر لي . ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري " .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث أبي الأحوص - زاد النسائي : ومنصور - عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن علي بن ربيعة الأسدي الوالبي ، به{[26004]} {[26005]} . وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقد قال عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن شعبة : قلت لأبي إسحاق السَّبِيعي : ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال : من يونس بن خباب . فلقيت يونس بن خباب فقلت : ممن سمعته ؟ فقال : من رجل سمعه من علي بن ربيعة . ورواه بعضهم عن يونس بن خباب ، عن شقيق بن عقبة الأسدي ، عن علي بن ربيعة الوالبي ، به . {[26006]}

حديث عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما :

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن علي بن أبي طلحة ، عن عبد الله بن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته ، فلما استوى عليها كبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، وحمد {[26007]} ثلاثا ، وهلل الله واحدة . ثم استلقى عليه فضحك ، ثم أقبل عليه فقال : " ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت ، إلا أقبل الله ، عز وجل ، عليه ، فضحك إليه كما ضحكت إليك " . تفرد به أحمد . {[26008]}

حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما :

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله البارقي ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ، ثم قال : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } . ثم يقول : " اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى . اللهم ، هون علينا السفر واطو لنا البعيد . اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل . اللهم ، اصحبنا في سفرنا ، واخلفنا في أهلنا " . وكان إذا رجع إلى أهله قال : " آيبون تائبون إن شاء الله ، عابدون ، لربنا حامدون " .

وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث ابن جريج ، والترمذي من حديث حماد بن سلمة ، كلاهما عن أبي الزبير ، به . {[26009]}

حديث آخر :

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان {[26010]} ، عن أبي لاس الخزاعي قال : حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج . فقلنا : يا رسول الله ، ما نرى {[26011]} أن تحملنا هذه ! فقال : " ما من بعير إلا في ذروته شيطان ، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم{[26012]} ، ثم امتهنوها لأنفسكم ، فإنما يحمل الله عز وجل " . {[26013]}

أبو لاس اسمه : محمد بن الأسود بن خَلَف .

حديث آخر في معناه :

قال أحمد : حدثنا عَتَّاب ، أخبرنا عبد الله( ح ) وعلي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أخبرنا أسامة بن زيد ، أخبرني محمد بن حمزة ، أنه سمع أباه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " على ظهر كل بعير شيطان ، فإن ركبتموها فسموا الله ، عز وجل ، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم " . {[26014]}


[25999]:- (8) زيادة من ت، م، أ.
[26000]:- (9) في ت: "أنه أتى".
[26001]:- (10) في ت، م: "مم ضحكت".
[26002]:- (11) في ت، م، أ: "فعل مثل ما فعلت".
[26003]:- (12) في ت، م: "الرب عز وجل".
[26004]:- (1) في ت: "رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي".
[26005]:- (2) المسند (1/97) وسنن أبي داود برقم (2602) وسنن الترمذي برقم (3446) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8800).
[26006]:- (3) تحفة الأشراف للمزي (7/436).
[26007]:- (4) في ت، أ: "وحمد الله ثلاثا".
[26008]:- (5) المسند (2/330) قال الهيثمي في المجمع (10/131): "فيه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف".
[26009]:- (6) المسند (2/144) وصحيح مسلم برقم (1342) وسنن أبي داود برقم (2599) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10382) وسنن الترمذي برقم (3447).
[26010]:- (1) في ت: "رواه الإمام أحمد بسنده".
[26011]:- (2) في م: "ما ترى".
[26012]:- (3) في ت: "أمرتم".
[26013]:- (4) المسند (4/221) ورجاله ثقات.
[26014]:- (5) المسند (3/494) وقال الهيثمي في المجمع (10/131): "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن حمزة وهو ثقة".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

وقوله : { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أمر بالإقرار بالبعث وترداد القول به ، وذلك داعية إلى استشعار النظر فيه ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا ركب ولم يقل هذه الآية جاءه الشيطان فقال : «تغنه ، فإن كان يحسن تغنى ، وإلا قال له : تمنه ، فيتمنى الأباطيل ويقطع زمنه بذلك »{[10187]} .


[10187]:ذكر القرطبي هذا الحديث مختصرا عما هنا، وقال: (رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد)، ثم قال: (ذكره النحاس).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

والانقلاب : الرجوع إلى المكان الذي يفارقه . والجملة معطوفة على جملة التنزيه عطف الخبر على الإنشاء . وفي هذا تعريض بتوبيخ المشركين على كفران نعمة الله بالإشراك وبنسبة العجز عن الإحياء بعد الموت لأن المعنى : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتشكروا بالقلب واللّسان فلم تفعلوا ، ولملاحظة هذا المعنى أُكد الخبر . وفيه تعريض بالمؤمنين بأن يقولوا هذه المقالة كما شكروا لله ما سخر لهم من الفلك والأنعام . وفيه إشارة إلى أن حق المؤمن أن يكون في أحواله كلها ملاحظاً للحقائق العالية ناظراً لتقلبات الحياة نظر الحكماء الذين يستدلون ببسائط الأمور على عظيمها .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (14)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{و} لكي تقولوا: {وإنا إلى ربنا لمنقلبون}، يعني لراجعون...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وليقولوا أيضا: وإنا إلى ربنا من بعد مماتنا لصائرون إليه راجعون...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

هذا يحتمل وجوها:..

والثاني: أنا إلى ما جعل لنا ربنا من الوصول إلى حوائجنا لمُنقلِبون بها وراجعون.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

أمر بالإقرار بالبعث وترداد القول به، وذلك داعية إلى استشعار النظر فيه..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{وإنا إلى ربنا لمنقلبون} واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك، فإنه كثيرا ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضا كذلك؛ لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب، وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، وأن يقطع أنه هالك لا محالة، وأنه منقلب إلى الله تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره، حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم ليتذكروا أنهم عائدون بعد الخلافة في الأرض إلى ربهم ليجزيهم عما فعلوا في هذه الخلافة التي زودهم فيها بأنعمه. وسخر لهم فيها ما سخر من القوى والطاقات:

(وإنا إلى ربنا لمنقلبون).. هذا هو الأدب الواجب في حق المنعم، يوجهنا الله إليه، لنذكره كلما استمتعنا بنعمة من نعمه التي تغمرنا، والتي نتقلب بين أعطافها.. ثم ننساه..! والأدب الإسلامي في هذا وثيق الصلة بتربية القلب وإحياء الضمير. فليس هو مجرد طقوس تزاول عند الاستواء على ظهور الفلك والأنعام، ولا مجرد عبارات يتلوها اللسان! إنما هو استحياء للمشاعر لتحس بحقيقة الله، وحقيقة الصلة بينه وبين عباده؛ وتشعر بيده في كل ما يحيط بالناس، وكل ما يستمتعون به مما سخره الله لهم، وهو محض الفضل والإنعام، بلا مقابل منهم، فما هم بقادرين على شيء يقابلون به فضل الله. ثم لتبقى قلوبهم على وجل من لقائه في النهاية لتقديم الحساب.. وكل هذه المشاعر كفيلة باستبقاء القلب البشري في حالة يقظة شاعرة حساسة لا تغفل عن مراقبة الله. ولا تجمد ولا تتبلد بالركود والغفلة والنسيان...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وتذكر آخر آية من هذه الآيات قول المؤمنين لدى ركوبهم المركب، إذ يقولون: (وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون).

هذه الجملة إشارة إلى مسألة المعاد بعد الحديث حول التوحيد؛ لأنّ الانتباه إلى الخالق والمبدأ، يلفت نظر الإِنسان نحو المعاد دائماً.

وهي أيضاً إشارة إلى أن لا تغترّوا عندما تركبون هذه المراكب وتتسلّطون عليها، ولا تغرقوا في مغريات الدنيا وزخارفها، بل يجب أن تكونوا دائماً ذاكرين للآخرة غير ناسين لها؛ لأنّ حالات الغرور تشتد وتتعمّق في مثل هذه الموارد خاصّة، والأشخاص الذين يتّخذون مراكبهم ووسائط نقلهم وسيلة للتعالي والتكبّر على الآخرين ليسوا بالقليلين.

ومن جهة ثالثة، فإنّ الاستواء على المركب والانتقال من مكان إلى آخر يذكّرنا بانتقالنا الكبير من هذا العالم إلى العالم الآخر.

نعم.. فنحن أخيراً ننقلب إلى الله سبحانه.

ملاحظة: ذكر الله عند الانتفاع بالنعم:

من النكات الجميلة التي تلاحظ في آيات القرآن الكريم، أنّ المؤمنين قد عُلّموا أدعية يقرؤونها عند التنعّم بمواهب الله سبحانه ونعمه.. تلك الأدعية التي تصقل روح الإِنسان وتهذّبها بمحتوياتها البنّاءة، وتبعد عنها آثار الغرور والغفلة.

فيأمر الله سبحانه نوحاً (عليه السلام) أن: (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين).

وهو سبحانه يأمرنا في هذه الآيات أن نشكر نعم الله تعالى، وأن نُسبّح الله عز وجل عند الاستواء على ظهورها.

فإذا تحوّل ذكر المنعم الحقيقي عند كلّ نعمة ينعم بها إلى طبع وملكة في الإنسان، فسوف لا يغرق في ظلمة الغفلة، ولا يسقط في هاوية الغرور، بل إنّ المواهب والنعم الماديّة ستكون له سلّماً إلى الله سبحانه!